في القرون التي تلت القرن السادس عشر في أوروبا توزع حضور القدس ما بين الأعمال الأدبية والأعمال ذات الطابع الديني أو الفكري أو التاريخي وهي مما يصعب تعداده ناهيك عن الوقوف عنده. فمن روايات الإنجليزي والتر سكوت التي استوحى فيها الحملات الصليبية إلى قصائد الشاعرين الإنجليزيين من رواد الرومانسية، وليم بليك وكوليرج، إلى أعمال كثيرة أخرى في القرنين التاسع عشر والعشرين وبلغات أوروبية مختلفة. قصيدة الشاعر وليم بليك "القدس الجديدة" ترسم صورة خيالية للقدس بوصفها رمز السلام والمحبة وقد أعيد بناؤها في إنجلترا البلد الذي رآه بليك في أسوأ صوره. فقد كانت إنجلترا وقتها في بداية الثورة الصناعية وتعج بالعمال والفقراء الذين غلبهم سواد الفحم الحجري وسيطر على حياتهم استغلال الأثرياء. بدت القدس عندئذٍ رمزاً لعالم طوباوي تحتاجه إنجلترا.
إلى جانب هذا كله هناك بالطبع ما كتبه اليهود طوال تاريخهم لاسيما في غيتواتهم الأوروبية أو في مناطق أوروبا المختلفة بعد أن تحرروا من تلك الغيتوات واعتلوا منابر الاقتصاد والسياسة والثقافة. كتب اليهود ما لايحصى من القصائد والأعمال السردية بالإضافة إلى الدراسات الدينية والتاريخية الضخمة التي تتصل بالقدس من زوايا مختلفة. في السياق الأدبي والثقافي الأوروبي نشر اليهود أعمالاً مثل كتاب موسى هس الذي كان أحد أصدقاء كارل ماركس وأحد دعاة الصهيونية الأوائل كتاباً بعنوان "روما وأورشليم" (1862) يدعو فيه إلى تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين ويؤكد فيه على نوع من التؤمة بين أوروبا المسيحية المرموز إليها بروما، واليهود المرموز إليهم بالقدس.
من الفترة نفسها نجد الأعمال الروائية للكاتب الإنجليزي دزرائيلي الذي صار رئيس وزراء لبريطانيا في أواخر القرن التاسع عشر والذي محورها حول فلسطين وسعي اليهود لامتلاكها. ففي روايتين، إحداهما بعنوان "تانكرد" والأخرى "كوننغزبي" يقول دزرائيلي إن العرب واليهود هم الذين سيحكمون القدس، لكننا ما نلبث أن نكتشف أن من يصفهم بالعرب ليسوا سوى يهود، فهم يحملون دماءً يهودية، أو متفرعون عن اليهود. فاليهود في نهاية المطاف هم من سيحكم القدس.
أما في القرن العشرين فإن القدس تواضل حضورها في أعمال كتاب آخرين يبرز اليهود أو ذوي الأصل اليهودي من بينهم، مثلما هو الحال في كتاب الروائي الأمريكي سول بيلو إلى القدس ثم العودة الذي يمتزج فيه أدب الرحلات بالتنظير السياسي والمعلومات التوثيقية. فالكتاب يروي زيارة للقدس قام بها الكاتب الأمريكي اليهودي عام 1975، أي بعد ثماني سنوات من احتلال اسرائيل الكامل لها، وهو مثقل بفيض من التحيز الإسرائيلي الصهيوني على الرغم من محاولة بيلو أن يبدو مراقباً محايداً، وعلى الرغم من الكم الضخم من الخلفية الثقافية المعرفية والتحليلية التي يستثيرها تطواف الكاتب في أرجاء المدينة.
غير أن الحضور الأشهر للقدس على المستوى الإبداعي هو ذلك المتمثل في مجموعة شهيرة للشاعر اليهودي الإسرائيلي يهوذا أميخاي وعنوانها "أغانٍ للقدس ولنفسي" صدر بالعبرية عام 1973. وأميخاي الذي توفي عام 2000 عن 76 عاماً والذي يعد أشهر الشعراء اليهود الذين هاجروا إلى إسرائيل قبل تأسيسها وكان صهيونياً حارب من أجل إسرائيل وفي مجموعته المشار إليها الكثير من سجلات ذلك النشاط. في قصيدة بعنوان "أورشليم 1967" تتألف من 13 مقطعاً تطغى عليها نشوة أميخاي بالعودة إلى القدس التي كانت إسرائيل قد استطاعت للتو احتلال جزئها الآخر. يقول أميخاي – وأنا أنقل من الترجمة الإنجليزية للمجموعة:
سافرت هذا العام بعيداً
لأرى هدوء مدينتي.
الأرجحة تهدئ الرضيع، والمسافة تهدئ المدينة.
...
سمعت الأجراس تقرع في زمن الأديان،
لكن العواء الذي سمعته في الداخل
ما زال يأتي من صحرائي اليهودية.
والآن وقد عدت، فإني أصرخ مرة أخرى.
إلى آخر النص الذي ينتهي بتصوير القدس وكأنها "ميناء على ضفاف الأبدية".
القدس عربياً/إسلامياً
كما أشرت في بداية هذه الملاحظات، لست هنا بصدد رصد كل أو حتى أهم ما ألف أو نشر في الثقافة العربية المعاصرة حول القدس، على الرغم من الانطباع الذي يلاقيه الباحث من أن ما ألف ونشر عربياً ليس بالضخامة التي تجعله في موضع المنافسة مع المقابل الأجنبي. ما أود التوقف عنده ينحصر في عدد من الأمثلة التي أجدها في الشعر بشكل خاص، لأن الشعر كان وما يزال أكثر احتفاءً بالقضايا الحساسة عربياً وإسلامياً فهو أداة التعبير الأولى في ثقافة ما تزال الشفاهية تحتل مساحة واسعة من نتاجها. صحيح أن الشعر الذي أتحدث عنه هنا ليس شفاهياً بالمعنى المتداول، أي أنها ليست من الشعر الشعبي أو العامي، لكن كونها قصائد يعني قربها من الوجدان العام أو الثقافة العامة. بالطبع هناك أعمال تأريخية وجغرافية وسياسية وأعمال ذات طابع ديني إسلامي إلى جانب أشكال أدبية غير شعرية مثل الرواية والمسرحية التي تتمحور حول القدس، لكني أردت لحديثي هنا أن يتركز في جانبه العربي حول نوع واحد رأيت أنه الأبرز بين الأنواع التي تفاعلت مع القدس في ثقافة العرب ومخيلتهم ووجدانهم.
من تأمل النصوص التي طالعتها حول القدس تبين لي أنها يمكن أن تقسم إلى مجموعتين: إحداهما تتحدث عن القدس بوصفها رمزاً لفلسطين وتتخذ منها منطلقاً إما لتحية النضال الفلسطيني المقاوم للاحتلال، أو لنقد السياسة العربية أو لحث العرب على الوقوف في وجه إسرائيل. هنا لا تكون القدس هي المقصودة بحد ذاتها، بقدرما أنها ترمز إلى مأساة الأمة أو فلسطين تحديداً. أما المجموعة الثانية فتتألف من قصائد تتمحور حول القدس نفسها، بل وتكتسب بعض سماتها الشكلية من ذلك التمحور. قصائد هذه المجموعة الثانية تكاد ترتبط بسمة شكلية واحدة تقريباً هي سمة التجوال. ففي تلك النصوص أو القصائد نجد الشاعر يدخل القدس ويتجول فيها وفي بعض النصوص تبرز رحلة المجيء إلى المدينة. لكن قبل الدخول في تلك النصوص يحسن أن أشير إلى أن ما سأسميه "قصيدة التجوال" غائرة في لحمة الثقافة العربية، فنحن نتحدث عن القصيدة الجاهلية أساساً، أي قصيدة الرحلة، لكن قصيدة التجوال تحديداً لاسيما حين تتصل بالمدن تختلف عن قصيدة الرحلة الجاهلية ثم الأموية والعباسية. هنا ستبرز قصيدة قديمة وتأسيسية في تقديري هي المعروفة بالسينية للبحتري، حين زار الشاعر العربي الشهير إيوان كسرى وتجول داخله متأملاً في ما آل إليه. في تلك القصيدة يبرز تلاحم فريد وأولي في الشعر العربي بين ذات الشاعر والتكوين الحضاري المتمثل في ما تركه الفرس حول بغداد: "حضرت رحلي الهموم فوجهت/ إلى أبيض المدائن عنسي".
قصائد المجموعة الأولى ربما تنتظم مجمل ما دار حول القدس من شعر الفلسطينيين بشكل خاص والعرب بشكل عام. فالخطاب الحماسي أو الحزين أو الانتقادي هو ما اتسم به الشعر العربي في مواجهة النكبة الفلسطينية واحتلال القدس، كما أنه الخطاب الطبيعي وإن كان فنياً الأسهل. ومن أقدم ما قيل في هذا السياق قصيدة ألقاها الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود حوالي عام 1935 أمام الأمير سعود بن عبد العزيز الذي كان في طريقه لزيارة المسجد الأقصى وفي فترة كانت سحب المأساة تتجمع بتزايد أعداد اليهود المهاجرين وتزايد الصدامات بين عصاباتهم الإرهابية والفلسطينيين. قال عبد الرحيم محمود، الشاعر الذي كان في الثانية والعشرين من عمره آنذاك، والذي توفي عن خمسة وثلاثين عاماً، أي عام النكبة نفسها 1948:
المسجد الأقصى أجئت تزوره أم جئت من قبل الضياع تودعه؟
حرم يباح لكل أوكع آبق ولكل أفاق شريد أربعه
لكأنه كان يرثي الأقصى قبل فقده بحوالي ثلاثين عاماً.
الشاعر السوري عمر أبو ريشه استثارته أيضاً المأساة التي تلوح في الأفق في قصيدة نظمها عام 1945 وأشار فيها إلى القدس ضمن تأسيه على وضع العالم العربي بشكل عام في تلك الظروف. يقول أبو ريشه:
وسلوا القدس هل غفا الشرق عنها أو طوى دونها شبا مرانه؟ [أي حد رمحه]
أهتاف خلف البحار بصهيون وحدب على بناء كيانه ؟
ولعل صدى من بيت شوقي حين هزه الحنين إلى مصر وهو في الأندلس يرن في ذاكرتنا جميعاً: "وسلا مصر هل سلا القلب عنها/ وأسى جرحه الزمان المؤسي"، وما من شك أن الحالين كانتا تستدعيان حنيناً مضطرماً وتساؤلات مرة، مع أن أهل مصر عادوا في حين بقي أهل القدس بعيدين عنها. بل إن المأساة كما يراها أبو ريشة ليست في بعد أهل القدس من العرب والمسلمين وإنما في ما يلوح له من إيحاءات الغدر سواء جاءت من خارج فلسطين أم من داخلها. كل ذلك يأتي لبلاد قدسها المسيحيون والمسلمون معاً وليس لها الآن إلا أن تنتظر العون من ربها:
يا لذل العهود، في فم من أجرى على عزها دما فرسانه
أي فلسطين يا ابتسامة عيسى لجراح الأذى على جثمانه
يا تثني البراق، في ليلة الإسراء، والوحي ممسك بعنانه
لا تنامي خضيبة الحلم خوفاً من غريب الحمى ومن أعوانه
إن للبيت ربه .. فدعيه رب حاوٍ رداه في ثعبانه