[b]قصة قصيرة
القدّيس
قبل غيبوبته الأخيرة، جمع الشيخ غانم أولاده وقال يوصيهم:
"المغتصب يا أبنائي كالنيران التي تحرق كل شيء، نيران المغتصب حرقت قلبي قبل أرضي، نيرانهم أتت على الأخضر واليابس، حرقت كل شيء حي فوق التربة، لكنها لم تستطع الوصول إلى جوف الأرض، ولم تحرق الجذور، الجذور ما زالت حية".
صمت لحظة، انسابت دمعته، ترقرقت على وجنته وسالت على لحيته البيضاء، نظر بعينيه المرهقتين من باب بيته المفتوح دائماً صوب بيته وأرضه وأضاف "هذه الجذور هي جذوركم، تذكروا دائماً أنها جذور مرتبطة بشرف الأرض وحب الوطن، وأصالة هذه الأمة".
صمت، شعر بالنيران تحرق جوفه وأحشاءه، تراكضت الصور في مخيلته، اشتعلت ذاكرته من جديد، صور حزينة، مذابح، منافي، غربة داخل الوطن.. شعر أن هذه الأرض المعطاء التي صادرها جنود الاحتلال ونفوه منها، طفحت غضباً على ملامح وجهه.
أغمض عينيه وراح يحلم، تجمعت في عينيه كل ألوان قوس قزح في ثوب حداد، وابتسم الحزن الفلسطيني في أعماقه بألم، ذاكرة تخضّبت بالدماء، وانبثقت من مشاريع الأحلام التي لا تُنسى.. شعر بأنفاسه تغبّ وتعبق أريج زهر البرتقال والليمون واللوز في بيارته، وفي كروم العنب التي يراها بصعوبة على مدّ نظره، "جنات على مدّ النظر".
انطلقت من بين أسنانه صرخة ألم، عضّ على نواجذه وكابد حشرجات الموت في لحظاته الأخيرة، وأضاف بصوت متهدّج:
"اغرسوا الجذور ثانية، حافظوا عليها وارووها حتى لا تصلها النيران ثانية، الجذور تعرف كيف تنمو، وكيف تلاحق النور وتعود خضراء من جديد".
وكمنْ يغمض على حبة رمل أغمض عينيه بألم.. وأشار لأبنائه نحو الأبواب الموصدة والأسلاك الشائكة التي تفصله عن أرضه..
رحل الشيخ غانم غريباً، لم يتحقق حلمه بالعودة، ولم تُفتح الأبواب الموصدة في حياته.. في حياته صادر المحتل بيته وبيارته، أحرقوا محصول أرضه، ودفعوه بعيداً إلى قرية مجاورة ليفلح أرضاً لا يملكها، وعلى مدى سنوات طويلة راح يحدّق بعيون غاضبة صوب أرضه، وصوب بيته الواقف بصمت القبور على مرمى حجر.
وحده ابنه الأكبر حمدان استوعب كلمات أبيه، وأقسم أن ينفذ وصيته بحذافيرها، وأن يدفن والده في أرضه التي صادرها المحتل منذ عشرات الأعوام وأقاموا عليها مستوطنة.
قرى شمال فلسطين التي ترزح تحت نير الاحتلال تنضح بمثل هذه الحكايا، جميع القرى مفروشة بحكايات الوجع والقهر والغربة داخل الوطن، وأهالي القرى والمدن يعرفون متى بدأت حكايات قهرهم، لكنهم يجهلون متى يسجل تاريخهم قهر العدوان، ومتى تكون عودتهم.
في هزيع الليل تجمّع أبناء الشيخ غانم وأقرباؤه على عجل، حملوا جثمان أبيهم وتسللوا إلى قريتهم، دخلوا أرض الآباء والأجداد في ظلمة ليلهم، عادوا إلى أرض الأنبياء، أرض اللبن والعسل.. انهالت الفؤوس في الأرض الرطبة قرب جذع شجرة زيتون رومانية قديمة، حفروا قبراً على عجل وغرسوا فيه جثمان والدهم الشيخ، ثم أهالوا عليه التراب وساووه بالأرض.. كانت الأرض دافئة رغم برودة الفجر ونعومة نسيمه البارد، وراحت الغيوم تتلاحق مع الفجر وتتساقط حبات صغيرة من المطر على الأرض المشبّعة بالأنين.
كخيوط الفجر انسل الجثمان من عيونهم واحتضنته أرض الوطن، ومع خيوط الفجر تسللوا ثانية وعادوا أدراجهم يتوارون عن أعين المستوطنين.. وحده قبر والدهم الشيخ غانم بقي شاهداً على ملكيتهم لهذه الأرض المعطاء.
ذات نهار، وبينما كان أحد المستوطنين يتجوّل بين أشجار الزيتون والبرتقال، وقف مشدوهاً يتأمل القبر الذي درس منذ زمن، تلفّت يميناً وشمالاً وراح يعد الحجارة الصغيرة التي تحيط بالقبر، وفجأة صرخ بأعلى صوته، ونادى المستوطنين قائلاً إن حلمه تحقّق، بعد أن عثر على قبر أحد الأولياء الذي كان يبحث عنه منذ زمن طويل.. ولم يقف عند هذا الحد، بل تمادى وقال لهم إن هذه الأرض أرض أجدادهم، وهذا قبر نبيهم الصالح "رعنان" الذي ورد ذكره في التوراة، وإنه مدفون في هذه البقعة المقدسة.
تعالت أصواتهم وصراخهم وفرحهم، تراكضوا وأحضروا أسلاكاً شائكة وأحاطوها بالقبر، ثم اجتمعوا مساء واتخذوا قراراً بمنع العمال العرب من القدوم إلى هذه الأرض أو فلاحتها، وشرعوا في أيامهم التالية ببناء كنيساً فوق الأرض المحيطة بالقبر.
تجمّعت عائلة حمدان، واندفعوا بقوة نحو الأرض، تصدى لهم الجنود وأوقفوهم قرب الأسلاك الشائكة، لم يتراجعوا، حفروا قبوراً جماعية لموتاهم وشهدائهم سلفاً، وراحوا يرقبون المستوطنين بغضب وقهر، والمستوطنون يتجمهرون ويترنّحون بشعورهم وسوالفهم الطويلة وقبعاتهم السوداء، يقيمون صلواتهم وشعائرهم الدينية حول القبر المغروس قرب جذع الزيتونة الفلسطينية.. صرخ حمدان "هذا جنون"، وقفز عن الأسلاك وشق طريقه نحو المستوطنين صارخاً "هذا قبر أبي"، لم يستمعوا له، انهالوا عليه ضرباً، أهلكوه عصياً وطردوه خارج أسوار المستوطنة.
لطّخت الدماء وجهه وجبينه، وراح يجر قدميه خارج أرضه، وتساءل ماذا بوسعه أن يفعل أكثر من ذلك!، وكيف يقنعهم أن هذا قبر أبيه، صحيح أن والده قديس، لكنه ليس نبي من أنبياء اليهود!.[/b]