مررت بتلك الشَّوارع المظلمة المقفرة الغارقة في لجَّة عميقة من الدُّموع والدِّماء، الخلوِّ من كلِّ شيء سوى جثث الشُّهداء والضَّحايا المتروكة بين ركام المنازل والبيوت، السَّاكنة الصَّامتة لولا صفير الرِّياح ونحيب الأرامل واليتامى على طوار الطُّرقات والممرَّات...
مررت بتلك الشَّوارع، شوارع القدس العتيقة...
وقفت أمام دكاكينها المهجورة وديارها المتروكة مذهولة صامتة أرتجف بشدَّة كما لو كنت قصبة في مهبِّ الرِّيح، حزينة مطرقة و دموع العين على الخدَّين تنهمر بغزارة دونما توقُّف...
أجل، وقفت وعبراتي السَّخينة تنسكب من على مقلتيَّ انسكاب الدِّيمة الوطفاء، وأنا أشاهد بعينيَّ مجازر الإنسان وتنكيله بأخيه الإنسان، وأنا أشاهد كيف يفرُّ المرء من وطنه الأمِّ خائفا مذعورا، أنا أشاهد كيف تحثو العجوز التُّراب على رأسها وتقرع صدرها بيديها حين أفاقت فوجدت جثث زوجها وبنيها ملقاة هنا وهناك، وأنا أشاهد كيف تندب الثَّكلى وحيدها بغصَّات تكاد تتداعى لها أركان السَّماء، وأنا أشاهد ضحكة الأطفال البريئة وقد لوَّثها الدَّم و الخوف، وأنا أشاهد هذه الأجداث البشريَّة المرتعشة...
نظرت حولي، قلَّبت طرفي، فإذا بي ألمح ثلاثة أخيلة مقبلة نحوي من تلك النُّقطة التي تلتقي فيها سبائك الشَّمس المضطربة بأمواج الأفق المعتم، ما لبثت أن توقَّفت أمامي الأطياف صامتة متهيِّبة، وإذا بإحداها يقدِّم إليَّ مزهريَّة فيها ثلاث ورود، هامسا في أذني هذه الكلمات:
« هي ذي هديَّة من أنام ينتظرون بزوغ شمس الحرِّيَّة... »
نظرت حولي مجدَّدا، فلم أبصر أمامي سوى ثلاثة أعمدة من البخور تتصاعد نحو العلاء، ولم أسمع سوى صدى تلك الكلمات المقتضبة لا يزال بعد يسبح بين دقائق الأثير...
مشيت بتلك الشَّوارع، شوارع القدس العتيقة، وما نشبت أن توقَّفت أمام أبواب مكسورة مهدَّمة لطالما جلست على عتباتها أنا وأصحابي، أمام أراجيح محطَّمة لطالما لهوت عليها أنا وخلَّاني، أمام حدائق وخمائل جرداء لطالما تمرَّغت بثراها أنا وأصدقائي...
مشيت، وما عدت أرى أمامي سوى عيون حزينة حمراء محدِّقة إلى السَّماء السَّوداء، أتخبَّط في حمرتها الملتهبة في لجَّة من غربة العذاب، وسيل من الذِّكريات...
-٢-
في ما سلف من الأزمنة الغابرة، كانت هنالك مدينة جميلة هادئة، دروبها وممرَّاتها معروشة بالحور والصَّفصاف، خمائلها مكسوَّة بالمنثور والبيلسان، أيادي رجالها وشبَّانها تعلي المآذن والقباب، المدارس والبيوت، تزرع الحقول وتسوق القطعان، تترنَّم بأناشيد الزَّمان، تعمل وتكدُّ تحت قيظ الشَّمس ولهيبها، بين زخَّات المطر وهدير العواصف، من غير كلل ولا ملل...
في ما سلف من الأزمنة الغابرة، كانت هنالك منازل آمنة وبيوت صغيرة دافئة، شبابيكها مظلَّلة بالورد والياسمين، بقرب مواقدها متجمَّع للأسر والأهالي الألى ينشدون على مسامع بعضهم البعض أساطير الماضي وحكم الأقدمين، أفنيتها مرتع للصِّبيان، عتباتها مجالس للصَّبايا اللَّواتي يغزلن بخيطان زرقاء وحمراء و أهازيج أرضهنَّ السَّمراء قصص المحبَّة والوئام، وبين الثَّنايا ترتسم ابتسامات الأمل المشرق...
في ما سلف من الأزمنة الغابرة، كانت هنالك مدينة جميلة هادئة، كان اسمها القدس...
ولكنَّ الحقد و البغضاء قد عصفا بهذه المدينة الجميلة الهادئة في ليلة مدلهمة بهيمة، فسالت الدِّماء الزَّكيَّة بين أفياء البيوت وعلى طول الطُّرقات ممتزجة بسيل جارف من الغلِّ والشَّنآن، وما لبثت أيادي سوداء قذرة أن خلعت أبواب تلك المنازل والبيوت، فصارت هذه الأخيرة مهجورة مقفرة بلا أهل يبثُّون فيها الدِّفء والحياة، لأنَّ فواصل من الأشواك الدَّامية والنِّيران المضطرمة والأيادي السَّوداء قد أضحى يحول بينهم وبين الوصول إليها من جديد...
-٣-
صرخت بأعلى صوتي في تلك الشَّوارع، شوارع القدس العتيقة، صرخت وصرخت، عسى أن تصير صرخاتي عواصف عاتية وهديرا صاخبا، عسى أن تقرع صرخاتي أبواب الضَّمائر النَّائمة والقلوب الجامدة...
صرخت، وعيناي تنظران ناحية الشَّمس التي لم تطلع بعد، صرخت وصرخت، فضاعت صرخاتي وأنَّاتي بين دقائق الأثير، لكن، لا حياة لمن أنادي، فما من أحد قد أجابني، ما من أحد قد نظر إليَّ أو اهتمَّ بي، ما من أحد قد رثى لحال أولئك المرميِّين حولي، ما من أحد، سوى ثلاثة من الجنود الصَّهاينة قد توقَّفوا بالقرب منِّي، نظروا إليَّ نظرات فاسقة مليئة بالخطيئة والرَّذيلة الكامنة في نفوسهم العليلة، أحاطوا بي والتفُّوا من حولي، جذبني أحدهم من شعري بقوَّة وصرخ في وجهي آمرا:
« تعالي معنا... »
لكنَّني أبيت...
ازداد حنقه وغضبه، فغر فيَّ سلاحه و صرخ من جديد:
« أما سمعت ما قلت ؟ تعالي معنا... »
لكنَّني أبيت...
ازداد غضبه وحنقه، صفعني على خدِّي بكلِّ وحشيَّة وقساوة، فسقطت على الأرض وقد سال الدَّم من فمي، نظر إليَّ حانقا منزعجا، ثمَّ هدأت نظراته وصارت أقرب منها إلى التَّهكُّم والاستهزاء، وما لبث أن أردف بلهجة منكرة:
« تلك هي عاقبة من يعصينا ويعارض أوامرنا... »
وما لبث أن أرسل من صدره ضحكة هي أقرب منها إلى فحيح الأفاعي وصلصلة الأغلال وقد بدت لي أسنانه الصَّفراء الكريهة، وإذا بغريميه يشاركانه في صنيعه، ضحكاتهم المدوِّيَّة أصمَّت أذنيَّ، لكنَّني لم أشتكي ولم أتألَّم، فهم يريدون منَّا أن نبدو أمامهم في موقف ضعف وجبن وتخاذل، بيد أنَّني أبدا لن أدعهم يهنئون بذلك، وما لبثوا أن ابتعدوا عنِّي منشدين أهازيجهم المنكرة التي يسخرون فيها منَّا، تغمرهم النَّشوة والغبطة بعد أن أوسعوني ضربا و تعنيفا، وتركوني هناك أغرق في لجَّة من دمائي القانية ودموعي المدرار، التي ما سكبتها أسفا على حالي، بل لوعة وحزنا على حال هذه الأمَّة، وما لبثت أن نهضت وانتشلت نفسي من بين تلك الأجداث البشريَّة متثاقلة خائرة القوى، ثمَّ لم ألبث أن تناولت تلك الورود التي سحقوها بأقدامهم الهمجيَّة، ضامَّة إلى صدري بقوَّة، ثمَّ رفعت طرفي ويديَّ نحو العلاء، مناجية الله جلَّ جلاله بصوت ضعيف مخنوق:
« يا ربُّ، أنصرنا على هؤلاء القوم الظَّالمين، أنصرنا ولا تردُّنا خائبين، وخلِّصنا من جبروتهم وعدوانهم، فإنَّك يا ربِّي تمهل ولا تهمل، آمين... »