ما
ابتليت أمة من الأمم بمثل ما ابتليت به الأمة العربية والإسلامية في
تاريخها الحديث على أرض فلسطين، حيث قام كيان دخيل اغتصب الأرض وطرد
سكانها الأصليين الذين قطنوها منذ آلاف السنين، ليُحِل محلها أشتاتاً من
شعوب مختلفة في أصولها ولغاتها وثقافاتها تحت غطاء من دعاوى دينية مفبركة،
وأساطير (تلمودية) لا علاقة لها بالدين الحق الذي ينكر الغصب والعدوان،
فضلاً عن تعارضها مع المبادئ السياسية التي تعارفت عليها الأمم، وأكدتها
المواثيق الدولية المعاصرة.
ولم يبدأ الحلم بتأسيس وطن قومي ليهود العالم في فلسطين مع مؤسس
الحركة الصهيونية تيودور هرتزل (1860-1904) الذي استطاع أن يجمع قادة
اليهود الصهاينة في مؤتمر بال بسويسرا سنة 1897، ولكنه مشروع استعماري
قديم حاول نابوليون بونابرت تطبيقه حينما غزا الشرق وفشل، ثم تلقفه
الإنجليز الذين رأوا ضرورة إنشاء كيان يهودي تابع لهم يشكل قاعدة لحماية
مصالحهم في الشرق، وخصوصاً بعد افتتاح قناة السويس العام 1869 التي أضحت
شرياناً حيوياً للطريق إلى الهند. وقد عبر الكثير من الساسة البريطانيين
عن هذه السياسة أمثال تشرشل، وهو آخر بناة الاستعمار البريطاني، إذ قال
بوضوح: «إذا أتيح لنا أن نشهد مولد دولة يهودية، لا في فلسطين وحدها، بل
على ضفتي نهر الأردن معاً، تقوم تحت حماية التاج البريطاني، وتضم نحواً من
ثلاثة أو أربعة ملايين من اليهود، فإننا سنشهد وقوع حادث يتفق تمام
الاتفاق مع المصالح الحيوية للإمبراطورية البريطانية»!. وقد نجح الإنجليز
فيما فشل فيه نابليون.
إذاً فالكيان الصهيوني أو ما سمي بدولة «إسرائيل»، كان مشروعاً
عدوانياً معقداً التقت فيه مصالح الدول الاستعمارية وعلى رأسها بريطانيا
وطموحات العنصريين اليهود الأوروبيين الذين خططوا لإنشاء الكيان اليهودي
في فلسطين، أمثال هرتزل ووايزمان وروتشيلد، واستطاعوا في النهاية الحصول
على وعد من الحكومة البريطانية بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، بناءً
على خطاب أرسله وزير الخارجية البريطاني بلفور العام 1917 إلى الثري
اليهودي روتشيلد بوصفه ممثل اللجنة السياسية التابعة للمنظمة الصهيونية،
وقد عرف ذلك الوعد المشئوم بوعد بلفور.
وما أن حصل الصهاينة على هذا الوعد حتى بدأوا بالعمل الجدي لتحقيقه
يداً بيد مع الحكومة البريطانية التي وجدت الفرصة سانحة لتحقيق أهدافها
حين فوضتها عصبة الأمم العام 1922 بإعلان الانتداب على فلسطين، ففتحت باب
الهجرة اليهودية لفلسطين على مصراعيه ليتضاعف عدد اليهود مرات عدة عما
كانوا عليه قبل الانتداب، كما استغلت قانوناً موروثاً من العهد العثماني
يقضي بإعطاء الأراضي التابعة للدولة لمن يستثمرها، فحولت معظم هذه الأراضي
لليهود. وكان المندوب السامي البريطاني اليهودي هربرت صموئيل يدير تلك
المؤامرة الكبرى لسلخ فلسطين من أهلها وتسليمها للصهاينة.
في مقابل ذلك كان الشعب الفلسطيني يخوض نضالاً ضارياً ضد المشروع
الصهيوني المدعوم من الاحتلال البريطاني، فقد كان يحارب على جبهتين: جبهة
الصهاينة وعصاباتها الدموية مثل الهاغاناه والأرغون وشتيرن التي كانت
ترتكب أبشع الجرائم بحق الشعب الفلسطيني لترويعه وإجباره على النزوح؛
وحكومة الانتداب التي فتحت باب الهجرة اليهودية على مصراعيه، وزودت تلك
العصابات بما تحتاجه من السلاح وغيره. فيما ضربت طوقاً أمنياً لمنع أية
مساعدة يمكن أن تصل إلى شعب فلسطين، ولذلك اختل ميزان القوى لصالح
الصهاينة، فما أن أعلن قرار التقسيم سنة 1947 ورفضه العرب حتى انفجر
الصراع المسلح بين العصابات الصهيونية وبين المجاهدين الفلسطينيين
والمتطوعين العرب في جيش الإنقاذ الذين لو توافر لهم التسليح والتدريب
الجيد لتغير وجه المعركة قبل أن يعلن اليهود دولتهم.
وفي 15 مايو/ أيار 1948 أعلنت بريطانيا انسحابها المتوقع من فلسطين
فأعلن الصهاينة قيام دولتهم على الأراضي التي اقترحها قرار التقسيم، الأمر
الذي استدعى تدخل الجيوش العربية لنجدة الشعب الفلسطيني، لكنها لم تحقق
المهمة المرجوة بل كانت نكساتها خطيرة على مختلف الجبهات. ففي حين كانت
مساحة الأراضي المخصصة لليهود طبقاً لقرار التقسيم تبلغ ( 56.47 في المئة)
من مساحة فلسطين، فإنها أضحت بعد حرب 48 وإعلان الهدنة تضم (77.4 في
المئة) من إجمالي مساحة فلسطين؛ وبينما كانت مساحة الأراضي المخصصة للعرب
في قرار التقسيم تبلغ (42 في المئة) من أرض فلسطين، فإنها تناقصت بعد
الحرب وإعلان الهدنة إلى (22.6 في المئة) هي لكل من الضفة الغربية التي
عهد بإدارتها للأردن وقطاع غزة الذي أصبح تحت الإدارة المصرية. أما الشعب
الفلسطيني فلم يعد له وطن، وأصبح أكثره شعباً من اللاجئين في الشتات، في
حين صُنّع وطن لمن لا يستحقه!
إن ذكرى النكبة يجب ألا تكون مناسبة للندب والبكاء على الأطلال، على
رغم المآسي والجروح التي يمكن أن تثيرها، لكنها يجب أن تكون مناسبة
لاستخلاص الدروس والعبر والتأمل فيما حصل، وكيف ولماذا حصل؟ وهنا يمكن
الإشارة إلى ما يأتي:
أولا: لقد وضعت
الحركة الصهيونية منذ تأسيسها هدفاً محدداً سعت في تحقيقه على مراحل. ففي
مؤتمر بال 1897 طرحت فكرة الدولة اليهودية، وبدأت فوراً جهودها العملية
لتحقيقها في فلسطين أو في أمكنة أخرى مؤقتة كسيناء أو أوغندة، وجاءتها
الفرصة سانحة حينما احتلت بريطانيا فلسطين، فجددت سعيها الدؤوب لدى
الحكومة البريطانية لتحقيق حلم الوطن القومي لليهود في فلسطين، أو ما
يسمونها (أرض الميعاد)، وحصلت على وعد بلفور العام 1917، ثم باشرت مدة
ثلاثين عاماً من النشاط السري والعلني إلى أن أعلنت قيام كيانها الغاصب
العام 1948. وأهم ما نلاحظه في مسار الحركة الصهيونية هنا: اقتران القول
بالفعل، والاستفادة من المعطيات الداخلية والمتغيرات الخارجية، كما هو
الحال في الحربين العالميتين، والانتظار وعدم التسرع حتى تنضج الظروف
المناسبة.
ثانيا: في المقابل
تجد الجانب العربي غير محدد الأهداف، وتتنازعه التيارات الإقليمية
والدولية. وحتى لو حدد الجانب الفلسطيني أهدافه في مواجهة المخطط الصهيوني
لإقامة كيان يهودي مدعوم بسيل الهجرة والمال والسلاح، فإنه لا يجد
الإمكانيات والدعم الكافي للمواجهة، وكم من مدينة أو قرية فلسطينية سقطت
بعد أن نفذت ذخيرة المدافعين! ناهيك عن تحول القضية الفلسطينية ومأساة
شعبها إلى شعارات يستغلها الانقلابيون وتجار السياسة لتحقيق مآربهم
الشخصية ما أثر سلباً على صورتها في الشارع العربي، ولو لبعض الوقت.
ثالثا: لا يمكن
الدخول في عملية عسكرية مشتركة ناجحة من دون أن يكون وراءها موقف سياسي
واحد أو متناسق على الأقل، لكن واقع الحال يثبت أن الدول العربية التي
شاركت في القتال كانت غارقة في الخلاف والتنافس الذي انعكس سلباً على
إدارة الجيوش المحاربة في ميدان المعركة، في مقابل الحركة الصهيونية التي
تمتلك قيادة تجيد توزيع الأدوار بين السياسيين والعسكريين وقادة العصابات
والسفاحين أمثال مناحيم بيغين، الذي منح جائزة نوبل للسلام مناصفة مع أنور
السادات!
رابعا: لم يهدد
الخطر الصهيوني فلسطين وحدها كما كان يتوهم البعض، بل شكل تهديداً للعالم
العربي والإسلامي، لأنه بحكم طبيعته كقاعدة متقدمة للغرب في قلب العالم
العربي فإن مهماته تتجاوز فلسطين وشعبها لتشمل تكليفها بمهمات في ضرب قوى
التحرر الوطني، والدول التي تسعى للاستقلال السياسي والاقتصادي في
المنطقة، ومحاولة تحطيمها ليس عن طريق القوة العسكرية وحسب، بل عن طريق
تفكيكها وتفتيتها بإشاعة الصراعات العرقية والدينية والمذهبية والقبلية
وغيرها، وهو دور لعبته «إسرائيل» ومازالت تلعبه منذ إنشائها حتى اليوم.
لذلك فإن أشد ما يقلق الغرب وربيبته «إسرائيل» هو التماسك الداخلي
للشعوب العربية، والوحدة أو التنسيق السياسي بين أقطارها، والتعاون بينها
وبين العالم الإسلامي، فذلك هو المدخل الضروري لاستعادة الحقوق العربيةة.