السؤال الأول
ما سر استعمال صيغة (فُعَلَة) في قوله تعالى: "ويل لكل هُمَزَة لُمَزة"؟ ولمَ لمْ يستعمل صيغة (فَعّـال) فيقول: هَمّـاز لَمّـاز مثلما قال في سورة القلم "حَلافٍ مَهين . هَمّاز مَشّاءٍ بنَميم"؟ *لا بد من التطرق هنا إلى صيغ المبالغة ودلالاتها والفروق بينها، فكلمة (هماز) صيغة مبالغة على وزن (فعّال)، وهذه الصيغة ـ كما يقول أهل اللغة تدل على الحِرفة والصنعة، فيقال لمحترف النجارة نجّار، ولمحترف الحِدادة حدّاد، وتشتهر عندهم أسماء المهن على هذا الوزن كالفتال والزراد والخراط والصفار والنحاس والبزاز. فكلمة (كذاب) عندما تطلق على أحد فإنها تدل على أن هذا صار كأن الكذب حرفته التي يحترفها كما أن حرفة ذاك هي النجارة أو الحدادة. وهذه الصيغة تقتضي المزاولة، لأن صاحب الصنعة يداوم على صنعته. ونقرأ في سورة نوح قوله تعالى: " ولا يَلِدوا إلا فاجِرا كفّـارا" فكأن الكفر ديدنهم ومهنتهم اللازمة لهم لن يخرجوا عنه، ونقرأ في السورة نفسها قوله تعالى: "فقُلْتُ اسْتَغفِروا رَبّكُم إنّهُ كانَ غَفّـارا" فالله تعالى غفار، وكلما أحدث العبد ذنبا أحدث الله له مغفرة مما تقدم نتبين أن صيغة (فعال) في أصلها تفيد الصنعة والحرفة والمداومة والمزاولة أما (هُمَزة) فهذه من المبالغة بالتاء. المبالغة بالتاء أكثر من نوع ويمكن أن نجعلها في نوعين، هما:
ـ ما أصله غير مبالغة ، ثم بولغ بالتاء، كالراوي، فنقول عند المبالغة (راوية)
ـ ما أصله صيغة مبالغة ثم نأتي بالتاء لتأكيد المبالغة وزيادتها ، مثل : (هُمزة) فأصلها (هُمَز) وهي من صيغ المبالغة مثل (حُطَم ـ لُكَع ـ غُدَر ـ فُسق) ، فنأتي بالتاء لزيادة المبالغة .
ويقول أهل اللغة :ما بولغ بالتاء يدل على النهاية في الوصف .. الغاية في الوصف فليس كل (نازل) يسمى (نازلة)، ولا كل (قارع) يسمى (قارعة) حتى يكون مستطيرا عاما قاهرا كالجائحة، ومثلها القيامة والصاخة والطامة فهذا التأنيث للمبالغة بل الغاية في المبالغة، وهذا ما تدل عليه كلمة (هُمَزة) إذن نحن أمام صيغتين للمبالغة إحداها تدل على المزاولة، والأخرى على النهاية في الوصف ... ها هو الفرق بينهما
* والسؤال الآن بعد أن عرفنا الفرق بينهما: لماذا اختار وضع هذه هنا وهذه هناك ؟
من استقراء سورة القلم نلحظ أنها تتحدث عن التعامل مع الخلق بين الناس، فكل مشاهد السورة أو اغلبها تدور حول هذا الأمر : "وإنك لعلى خلق عظيم"، فهي تتناول السلوكيات ولا تذكر العاقبة إلا قليلا وهي التي وردت في قوله: "سَنَسمُه على الخرطوم" ولكنه لم يذكر شيئا آخر من عاقبة مرتكب هذا الفعل (حلاف مهين هماز مشاء بنميم) أما في سورة الهمزة فقد ذكر النتيجة وتعرض للعاقبة، لذلك ناسب أن يذكر بلوغه النهاية في الاتصاف بهذه الصفة، وناسب أيضا أن يذكر في الجزاء صيغة مماثلة فقال تعالى: "كَلا لَيُنْبَذنّ في الحُطَمَة" والنبذ إذلال، والحُطَمة صيغة مبالغة بالتاء تدل على النهاية في الحطم، وهي تفيد أن الجزاء من جنس العمل فكما أنه يبالغ في الهمز فسيكون مصيره مماثلا في الشدة ونلاحظ أيضا من السورة أن الخارج والمتعدي يحبس في النار وهكذا في قوانين الدنيا أيضا. أما في سورة القلم التي تركز على التعامل فقد ذكر لهم صفات مثل: مكذبون، حلاف، هماز، كان ذا مال وبنين. وهذه الصفات لا تستوجب الطاعة فلا تطعه بسبب كونه ذا مال وبنين، والبنون كناية عن القوة والمنعة ،فالعربي صاحب عزة في عشيرته ببنيه ولكن المال والقوة هما سبب الخضوع والانقياد في الأفراد والشعوب مهما كانت حقيقة صاحب المال من أخلاق سوء وإثم واعتداء فإن لها القوة لما لها من مال وقوة وهذا مشاهد في واقعنا وهو سبب استعلاء الدول القوية صاحبة هذا المال وتلك القوة على الشعوب المستضعفة. فالملحوظ هنا أن سورة القلم لم تتطرق إلى نهايتهم بل اكتفت بالأمر بعدم طاعتهم، أما الهمزة فقد ذكرت نهايتهم بتفصيل، وهذه هي الآيات الكريمات "وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ . الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ . يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ . كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ . نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ . الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ . إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ . فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ " ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ . مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ . وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ . وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ . فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ . بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ . إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ . فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ . وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ . وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ . هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ . مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ . عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ . أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ . إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ . سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ . إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ
السؤال الثاني
قال تعالى في سورة الأنعام في الآية 99: "وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" وقال أيضا في الآية 141: "وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ" فلم عبر في الأولى بالاشتباه وفي الثانية بالتشابه؟
* الاشتباه هو شدة التشابه إلى حد يؤدي للالتباس ، أما التشابه فلا يصل إلى حد اللبس، فالاشتباه أدق وأقوى وأكثر دلالة على القدرة والآية الأولى فيها بيان القدرة وتعداد الأعمال في موضع تدبر ودعوة للنظر (انظروا إلى ثمره) فكان من المناسب أن يأتي بما هو أدل على القدرة أما الثانية فهي في سياق ذكر الأطعمة وتعدادها وليس التدبر والنظر، وفي نهايتها قال: (كلوا من ثمره) وليس مقام توجيه النظر إلى دلائل القدرة مباشرة وقد نفى التشابه في الحالين (غير متشابه) ولكنه لم ينف الاشتباه، لأن نفي التشابه ينفي الاشتباه، ونفي الاشتباه لا ينفي التشابه، فلو نفى الاشتباه لبقي التشابه، ولو نفي التشابه فمن باب أولى عدم الاشتباه ، لأن التشابه أقل درجة من الاشتباه فانتفاء القليل يقتضي انتفاء الشديد .
السؤال الثالث
لماذا جاء الفعل يهدي بالتشديد في قوله تعالى في سورة يونس في الآية 35: " قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ"؟ الفعل يهِدّي أصله هو الفعل (يهتدي) وقد طرأ عليه الإبدال، إذ أبدلت التاء دالا ، ومثلها من الأفعال التي وقع فيها الإبدال (ازّين ، ادكر) فالإبدال واقع في هذه الكلمة وفق قواعد صرفية معلومة، ولكن لم جاء الفعل بالإبدال (يهِدّي) ولم يأت على صورته الأصلية؟ الفعل (يهدّي) فيه تضعيف الدال، والتضعيف في الغالب يفيد التكثير والمبالغة، ولو تأملنا في سياق هذه الآيات لوجدنا أن هذه المبالغة تناسب المقام هنا دون مكان آخر فالحديث هنا عن الأصنام (هل من شركائكم) والأصنام ليست كالبشر، فنفى الاهتداء بصيغة تحمل معنى المبالغة لتؤكد عدم قدرة الشركاء (الأصنام) على الهداية أما الآيات الأخرى في القرآن الكريم فقد جاء فيها الفعل (يهتدي) ولم يكن قد سبقه حديث عن مثل هؤلاء الشركاء، بل هذا هو الموقع الوحيد الذي جاءت فيه الهداية مع الأصنام فاستعملت هذه الصيغة إذ ليست الأصنام كالبشر فكيف تهدي أو تهتدي وإن عدنا إلى الآيات التي قبلها لرأينا قوله تعالى "أمّن يملك السمع والأبصار" وإذا فقد السمع أو فقد البصر يكون الاهتداء قليلا فكيف إن فقدهما معا؟ فصارت هذه الآية وهذا الفعل مبالغة في تأكيد عدم الهداية وهناك قراءة أخرى للآية بفعل (يهدي) وهي موافقة لرسم المصحف وهذه أيات أخرى جاء فيها الفعل (يهتدي) (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) (يونس:108) (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الاسراء:15) (َأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (النمل:92) (قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) (النمل:41)
السؤال الرابع
قال تعالى في سورة النساء: "مَن يَشفَعْ شفاعَةً حَسَنةً يكن له نصيبٌ منها ومَن يَشفَعْ شفاعَة سيئة يكن له كِفْلٌ منها وكان الله على كلّ شيء مقيتا" لم قال عن الشفاعة الحسنة (يكن له نصيب منها) وعن الشفاعة السيئة (يكن له كفل منها)؟ من معاني (الكِفل) في اللغة : النصيب المساوي، المثل . والكفيل يضمن بقدر ما كفل ليس أكثر أما (النصيب) فمطلق غير محدد بشيء معين لذلك قال الله عز وجل عن السيئة (يكن له كفل منها) ؛ لأن السيئة تجازى بقدرها " من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها" غافر 40 أما الحَسَنة فتضاعف كما قال تعالى : " مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا " الأنعام 160. وقال عز وجل : " مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا " القصص 84 فقال عن حامل السيئة أن له الكفل أي المثل، أما صاحب الشفاعة الحسنة فله نصيب منها والنصيب لا تشترط فيه المماثلة وهذا من عظيم فضل الله عز وجل وورد في الحديث الشريف أنه عليه الصلاة والسلام قال فيما يرويه عن ربه: إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك: فمن هَمّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمئة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة"
السؤال الخامس
قال تعالى في سورة التوبة 62: " يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ" فلمَ لمْ يقل أحق أن يرضوهما؟ إرضاء الله تعالى وإرضاء رسوله عليه الصلاة والسلام أمر واحد وليسا أمرين مختلفين، فمن أرضى الله تعالى فقد أرضى رسوله، ومن أرضى الرسول فقد أرضى الله عز وجل. قال تعالى: " مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً" ـ النساء:80 لذلك وحد الضمير العائد عليهما للتأكيد على أن إرضاءهما واحد وسيلةً وغاية
السؤال السادس
ترد كلمة الملائكة في القرآن الكريم ومعها الفعل بالتذكير مرة وبالتأنيث مرة أخرى فما أسباب هذا الاختلاف وهل هو جائز أصلا؟ أما من حيث الجواز فهو جائز طبعا لأن الملائكة ليست جمعا مذكر سالما فيجوز تذكير الفعل ويجوز التأنيث وهذا تلخيص سريع لمواضع تأنيث الفعل من حيث الوجوب والجواز إذا كان الفاعل مؤنثاً أنث فعله بتاء ساكنة في آخر الماضي ، وبتاء المضارعة في أول المضارع ، نحو : قامت هند ، وتقوم هند . وهذا قد يجب وقد يجوز فيجب ـ إذا كان الفاعل ضميراً مستتراً عائداً على مؤنث حقيقي التأنيث ، نحو : هند قامت أو هند تقوم ـ أو مجازيِّ التأنيث ، نحو : الشمس طلعت أو الشمس تطلع . ـ إذا كان الفاعل اسماً ظاهراً متصلاً بعامله مباشرة ، حقيقي التانيث ، كقوله ، تعالى ( إذ قالت امرأة عمران )
ويجوز تأنيث الفعل في ثلاثة مواضع:
ـ إذا كان الفاعل أو شبهه ( نائب الفاعل ، اسم الفعل الناسخ ) اسما ظاهرا حقيقي التأنيث مفصول عن الفعل مثل سعى بين الصفا والمروة المؤمنة ويجوز سعت.
ـ إذا كان الفاعل أو شبهه جمع تكسير ذبلت الأوراق ويجوز ذبل الأوراق.
ـ إذا كان الفاعل أو شبهه اسما ظاهرا مجازي التأنيث اندلعت الحرب ويجوز اندلع الحرب .
ولكن السؤال: هل هناك خطة معينة سار عليها القرآن في ترتيب هذه الأفعال؟ ولماذا اختار الله عز وجل بعض المواضع ليكون الفعل معها مذكرا ومواضع أخرى جاء الفعل مؤنثا؟ بعد استقراء الآيات القرآنية التي تحدثت عن الملائكة تم التوصل إلى الملحوظات التالية، التي تبين خطا تعبيريا مميزا سار عليه القرآن في استعمال الفعل مع (الملائكة) ، ولها حِكم وأسرار تخص هذا الترتيب البديع في الاستعمال، قد يدرك العلماء بعضها ويغيب عنهم يعضها ولكنه لا ينقص من قدر هذا التميز بل يدفع للتفكير فيه ومحاولة النسج على منواله:
ـ كل فعل أمر يصدر للملائكة يكون بالتذكير: اسجدوا ، أنبئوني، فثبتوا
ـ كل فعل للعبادة يأتي بالتذكير: "فسجد الملائكة كلهم أجمعون" ، " فقعوا له ساجدين"، "لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون" وقد يكون ذلك لما تتطلبه العبادة من قوة ، ولأن المذكر في العبادة أكمل، وقد قال عز وجل: "وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم"، وقال عن مريم عليها السلام : وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ـ التحريم:12
ـ كل فعل يقع بعد ذكر الملائكة يكون بالتذكير، أي الفعل الذي يتأخر عن الملائكة يكون بالتذكير: "والملائكة يدخلون عليهم من كل باب" ، " وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُون" ، "وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ" ، "لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين"
ـ كل وصف اسمي للملائكة يكون بالتذكير:
* إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ ـ آل عمران:124
* بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ ـ آل عمران125
* وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُون ـ النساء
* والْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ ـ الأنعام
* إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ـ لأنفال:9
* وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين ـ الزمر:75
* فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِين ـ الزخرف:53
ـ العقوبات تأتي بالتذكير، ولو كانت عقوبة جاءت في موضعين فالأشد منهما بالتذكير
* وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ـ لأنفال:50
* فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ـ محمد:27 من الآية نفسها نلاحظ الشدة في الثانية بذكر عذاب الحريق، وتتبع بقية آيات السورة يرينا أنه تم تشبيههم بآل فرعون، فالسياق جاء بالشدة فذكر الفعل، أما الآية الثانية فكان السياق أخف فجاء بالتأنيث
* وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً ـ الفرقان:25
* إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ـ فصلت:30 الفعل واحد هو النزول، ولكن حالة الشدة جاء الفعل فيها مذكرا، أما جو الطمأنينة فقد استدعى التأنيث وفي المقابل لم تأت بشرى من الملائكة بصيغة التذكير، بل كل البشارات بالتأنيث ولعل ذلك لما في البشارة من رقة وما يتناسب معها من لطف وخفة وذلك من خصائص الإناث
* وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ــ البقرة:248
*إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ـ آل عمران
* وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ـ آل عمران:42
* فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً ـ آل عمران
* إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت:30)
السؤال السابع
قال تعالى في سورة العنكبوت الآية 63 "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ" وجاءت آيات أخرى تقول: (الأرض بعد موتها) بدون الحرف (من) فما الحكمة من ذلك؟ الآية 63 من سورة العنكبوت هي الآية القرآنية الوحيدة التي جاء فيها هذا التعبير: (من بعد موتها) أما الآيات الأخرى كلها فقد جاءت بدون (من) مثل قوله تعالى: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" ـ (البقرة:164) " وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ" (النحل:65) " يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ" (الروم:19) "وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" (الروم:24) "فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (الروم:50) "وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ" (فاطر:9) "وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" (الجاثـية:5) "اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" (الحديد:17) ولا بد لنا من معرفة الفرق بين التعبيرين لنصل إلى سبب اختلافه في الموقفين (بعد موتها) تعبير احتمالي، يحتمل البعدية القريبة والبعدية البعيدة، فقد يكون إحياء الأرض بعد ساعة أو بعد شهر أو بعد سنة أو أكثر من بدء موتها أما التعبير (من بعد موتها) فإن (من) فيه لابتداء الغاية، والمعنى أنه يحييها رأسا بعد الموت فهو دال على البعدية القريبة قطعا، وهو أدل على القدرة لأنه لا يحتاج إلى زمن ليحييها، بل هو قادر على إحياء الميت لحظة موته ولا يحتاج إلى زمن لإعادته ولنعد لننظر إلى سياق المواقف التي وردت فيها الآيات لنتلمس سبب تخصيص كل سياق بتعبير منهما، فنجد أن سورة العنكبوت كان سياقها في محاكمة المشركين من ناحية عقلية: "وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ . اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ " ثم جاء هذا السؤال عن إحياء الأرض ، وهم قد أقروا بقدرة الله البالغة في الأسئلة السابقة وهذا السؤال يقول إنه يحيي الأرض بعد موتها مباشرة بلا مهلة، فهي قدرة بالغة (قل الحمد لله). هل هذا يدعوكم إلى الشرك ، لذلك قال : (بل أكثرهم لا يعقلون) فنفى عنهم العقل لأن هذا يُعقَل حتى دون علم، فالعقل المجرد يهديهم إلى أن الله واحد لا شريك له، فنعى عليهم عدم استعمال العقول، وقبل هذا جاء أيضا في السورة نفسها قوله تعالى: "وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ "
السؤال الثامن : معدودة ومعدودات
قال تعالى: "وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:80) وقال سبحانه: "ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (آل عمران:24) فلماذا عبّر في الأولى عن مدة مس النار بالأيام المعدودة، وعبر في الثانية بالأيام المعدودات؟ ج: جمع غير العاقل إن كان بالإفراد يكون أكثر من حيث العدد من الجمع السالم كأنهار جارية وأنهار جاريات، فالجارية أكثر من الجاريات، ومثلها شاهقة وشاهقات فالعدد في الأولى أكثر، وجمع السالم قلة فهذه من المواضع التي يكون فيها المفرد أكثر من الجمع. قال في آية أخرى عن يوسف عليه السلام: "وشروه بثمن بخس دراهم معدودة" أي أكثر من 11 درهما، ولو قال معدودات لكان ت أقل. وفي الآيتين المتقدمتين قال في الأولى (أياما معدودة) وفي الثانية (أياما معدودات) لأن الذنوب التي ذُكرت في الأولى أكثر فجاء بمعدودة التي تفيد الكثرة، والتي ذكرت في الثانية أقل فاستعمل (معدودات) مناسبة لمعنى كل منهما.
السؤال التاسع
لماذا قال تعالى في سورة القارعة: "وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ 5" وقال في المعارج:"وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ9 " فوصف الجبال في الأولى بالعهن المنفوش، وقصر الوصف على العهن في الآية الثانية؟ ج: الرد من كتاب الدكتور فاضل (لمسات بيانية) في منتصف هذه الصفحة
السؤال العاشر
قال الله تعالى في الوضوء: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ 6" ـ المائدة فلماذا قال عن الأيدي (إلى المرافق) مع إنهما مرفقان ، وقال عن الرجلين (إلى الكعبين) ولم يقل الكعوب على الجمع مثل المرافق ولأن الكعبين هما العظمان الناتئان على طرفي القدم فهي أربعة كعوب؟
ج: كل يد لها مرفق واحد، وكل رجل لها كعبان فلما خاطب الجميع قال: (إلى المرافق) وفي الوضوء لا بد أن يستغرق الغسل الكعبين، فلو قال: إلى الكعوب، لم يدل على أن الكعبين كليهما داخلان في الغسل، وإنما كعوب الناس المخاطَبين بقوله: (يا أيها الذين آمنوا)، وعندها فلو غسلوا كعبا واحدا ـ والمخاطبون كثر ولهم كعوب ـ لكفاهم ما ادام المذكور هو (الكعوب) لذلك قال (إلى الكعبين) حيث المعنى: كل واحد من المخاطبين عليه أن يغسل إلى الكعبين. فلا يصح أن يقول (إلىالكعوب) وإلا لأوقع في اللبس مسائل في التقديم والتأخير مبحث التقديم والتأخير كاملا من كتاب الدكتور، وفيه مسائل مهمة
* ما السر في تقديم ذكر (في سبيل الله) على نوع الجهاد (بالمال والنفس) وتأخيره حينا كقوله تعالى في سورة التوبة 20 : " الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ" حيث قدم (في سبيل الله) على نوعية الجهاد، وقال عز وجل في الأنفال72 " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" فقدم ذكر الجهاد بالأموال على قوله (في سبيل الله)؟ نلحظ في الآيات القرآنية خطا عاما يوضح لنا سبب هذا التقديم والتأخير في الآيات التي تتحدث عن الجهاد فإذا كان السياق في جمع الأموال وحبا لمال قدم ذكرَ التضحية به، وإذا كان السياق في القتال وليس في الأموال أو القعود عن الجهاد أخّـر الأموال، فهذا من باب التناسب بين الكلام ومناسبة المقال للمقام فلو عدنا إلى الآيات السابقة في سورة الأنفال لوجدنا حديثا عن المال والفداء وأخذه من الأسرى والغنائم ، وهذه الآية نفسها وردت تعقيبا على قوله تعالى: " وما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا" وعرض الدنيا هو الفداء الذي أخذه من الأسرى وهو المال ، فعاتبهم على أخذ المال ثم قال: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) والذي أخذوه هو المال الذي افتدى الأسرى به أنفسهم ، ثم قال: (كلوا مما غنمتم حلالا طيبا) فالسياق أصلا في المعاتبة على أخذ المال من الأسرى لذلك قدم المال لأنه كان مطلوبا لهم فطلب أن يبدؤوا بالتضحية به، فكان التقديم للاهتمام به لأنهم يهتمون به أما لو عدنا إلى سورة التوبة لرأينا ه كله في الجهاد وليس المال "قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ" ـ التوبة:14 " أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" ـ التوبة:16 "أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" ـ التوبة:19 فالسياق حدد التقديم وما يجب أن يتقدم ، فلما كان هناك في أخذ الأموال وكان المال مطلوبا لهم قدم المال على (في سبيل الله) وهنا العكس فأخر المال * قال تعالى في سورة الأنعام الآية 32 : " وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ" فقدم اللعب على اللهو في وصف الدنيا، أما في مواضع أخرى مثل سورة العنكبوت 64 فقد قال: " وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" ، فما سبب ذلك؟ كل الآيات القرآنية التي تصف الدنيا باللعب واللهو تم تقديم اللعب على اللهو إلا في سورة العنكبوت أما معرفة السر وراء ذلك فتتجلى لنا بالرجوع إلى السياق القرآني في السورة المقصودة فقبل هذه الآية في العنكبوت جاء قوله تعالى: " اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ" العنكبوت 63 و 64 والرزق من مدعاة الالتهاء بجمعه وليس مدعاة لعب لذلك أيضا قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ" المنافقون 9. فالرزق وطلب الرزق يشغل الإنسان ويلهيه لذلك نهى الله تعالى عن الالتهاء به، والذي بسط عليه الرزق منشغل في جمعه، ومن قُدِر عليه الرزق هو أيضا ملته بطلبه والبحث عنه والفكر به، لذلك قدم اللهو على اللعب في هذه الآية، أما الآيات الأخرى فلم يرد فيها مثل هذا الأمر * تتقدم صفة الغفور على صفة الرحيم في آيات القرآن الكريم إلا في سورة سبأ حيث قال عز وجل في الآية الثانية : " يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ" فما سر ذلك؟ هذه الآية هي الآية الوحيدة التي قدم فيها صفة الرحيم على صفة الغفور في القرآن كله، فحيث اجتمعا فيما سواها قال (الغفور الرحيم) إلا في هذا الموطن ولنبدأ بمعرفة معاني كل منهما (فالغفور) صفة متعلقة بالمكلّفين من الثقلين أما (الرحيم) فهي صفة عامة تطلق على المكلف وغير المكلف كالرضع والحيوانات، فالرحمة أوسع وأعم من المغفرة، لأن المغفرة خاصة بالمكلفين المذنبين وكان ما تقدم هذين الاسمين عاما في هذا الموضع : "يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ " في كل القرآن الكريم حيث اجتمع هذان الاسمان الكريمان تقدم ذكر للإنسان بأي صورة من الصور، أما هنا فلم يتقدم ذكر الإنسان، بل تأخر، فالسورة تبدأ : "الحََمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ . يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ " ثم قال في الآية الثالثة : "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ" فتأخر ذكر أصناف البشر ولذلك تأخرت المغفرة
* ما سبب تقديم الجار والمجرور في سورة (يس): " وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ 20" وتأخيره في سورة القصص: " وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ 20" ؟ المعنى مختلف قطعا من جيث الدلالة اللغوية، فإن قلنا : (جاء من القرية رجل) فالمجيء من القرية قطعا، وإن قلنا: (جاء رجل من القرية) فهذا تعبير احتمالي، قد يكون جاء من القرية، وقد يكون الرجل قرويا ولكن مجيئه لم يكن من القرية تحديدا، فإنا إن قلنا: (رجل رجل من مصر) فليس المعنى بالضرورة أنه جاء من مصر البلد الآن، وإنما يحتمل أن يكون المعنى أنه رجل أصله من مصر، ولا يشترط أن يكون قادما منها، ولكن إن قلت: (جاءني من مصر رجل) فهذا ييعني أنه قدم من مصر قطعا قوله تعالى: "وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى" احتمال أنه جاء من أقصى المدينة، واحتمال أنه هو من سكان أقصى المدينة أما قوله في يس: "وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى" فهو قد جاء من أقصى المدينة بالفعل، وقد كان مجيئه لإشهار إيمانه وإبلاغ الدعوة الرسل قالوا: "وما علينا إلا البَلاغُ المبين" والبلاغ المبين يعني الواضح الظاهر الذي يعم الجميع، فإن خفي عن بعض فليس مبينا، فمجيئه من أقصى المدينة يعني أن البلاغ وصل إلى أبعد نقطة فيها. فجاء هذا الرجل وهو يحمل هذا الإيمان لإعلان إيمانه. أما صاحب موسى في القصص فقد كان مجيئه لإسرار أمر في أذن موسى، فالمجيئان مختلفان، ولا شك أن المجيء للدعوة وتبليغها وإعلان الإيمان أهم في ميزان الله وأثقل وأولى أن يُبدأ بأقصى المدينة إضافة: يمكن أن نضيف من المعاني إلى ذلك أن هذا الرجل قد جاء منمكان بعيد متجشما عناء الطريق ليؤمن ويدعو إلى الله، أما هؤلاء القريبين من الرسل الذين تصلهم الدعوة بلا عناء فهم ل يبالون بها ولا يحسنون قبولها.