تراهن اسرائيل والولايات المتحدة الامريكية من خلفها على انحسار الاهتمام العالمي بالمجزرة الاسرائيلية التي ارتكبت ضد سفن الحرية وشهدائها، ولذلك لا بد من استمرار الضغوط الشعبية والرسمية لابقاء هذا الزخم الذي انعكس في مظاهرات عمت مختلف عواصم العالم مستمرا حتى يتم رفع الحصار عن قطاع غزة بشكل نهائي، واجراء تحقيق دولي محايد ومستقل لاظهار الحقائق كاملة وتقديم المتورطين الاسرائيليين في جرائم الحرب هذه الى العدالة الدولية، ونيل العقاب الذي يستحقونه.
اعتراض سفن في عرض البحر، وخطفها الى ميناء اسدود الفلسطيني المحتل هو عمل يعكس ابشع انواع القرصنة، حتى لو تمت هذه العملية بطرق سلمية مثلما ادعت السلطات الاسرائيلية طوال يوم امس من خلال التباهي بعدم حدوث اي اعمال عنف على ظهر السفينة الايرلندية 'ريتشيل كوري'، على عكس ما حدث للسفينة التركية مرمرة والنشطاء الذين كانوا على ظهرها.
من الرسائل المؤثرة التي قرأتها تعليقا على احد مقالاتي السابقة، واحدة من قارئ صومالي قال فيها صاحبها انه كان يشعر بالخجل لان بعض الصوماليين اقدم على اعمال قرصنة وخطف السفن، ولكنه بعد ان تابع القرصنة الاسرائيلية واقدام فرق الكوماندوز الاسرائيليين باقتحام سفن الحرية لمنع وصول الطعام والدواء والكراسي المتحركة للعجزة، ومواد البناء بات يشعر ان هؤلاء القراصنة الصوماليين ارفع اخلاقا واكثر انسانية من الاسرائيليين (مع الفارق في الدوافع والنوايا) لانهم لم يعتدوا على احد، ولم يقتلوا ايا من البحارة، بل ان عددا كبيرا منهم لقي حتفه نتيجة عمله هذا.
وختم القارئ رسالته بالقول انه يأمل ان يواجه القراصنة الاسرائيليون الذين يقولون انهم ينتمون الى دولة ديمقراطية عضو في الامم المتحدة ما واجهه ويواجهه القراصنة الصوماليون اي المثول امام العدالة نفسها.
' ' '
وحتى تستمر هذه القضية حية، ويتم قطع الطريق على المحاولات الاسرائيلية والغربية عموما لطمسها، تماما مثلما جرى طمس تقرير غولدستون حول جرائم الحرب الاسرائيلية في قطاع غزة، لا بد من استمرار قوة الدفع الحالية، حتى تتحقق الاهداف، ولا تضيع دماء شهداء سفن الحرية هباء، ونقترح التالي:
اولا: نتمنى ان يمضي السيد رجب طيب اردوغان قدما في مشروعه الذي تحدث عنه حول نواياه الذهاب الى ميناء غزة المحاصر على رأس قافلة سفن تركية محمية بسفن حربية تابعة للاسطول التركي ورافعة لعلم حلف الناتو الذي تعتبر تركيا عضوا اصيلا فيه، وان لا يرضخ للضغوط الامريكية التي تطالبه بالعدول عن هذه الخطوة.
نعرف ان هناك اصواتا تركية، ومن المؤسف عربية ايضا، تشكك في نواياه، وتقول له بان لا يكون عربيا اكثر من العرب، وتذكره بان دولا عربية كبرى مثل مصر والمملكة العربية السعودية لا تفعل شيئا لكسر حصار قطاع غزة، ولكن الله اختاره لهذه المهمة الانسانية، وكذلك اكثر من مليار ونصف المليار مسلم يعتبرونه الناطق باسمهم المعبر عن مشاعرهم، والقادة العظام لا يختارون اقدارهم، وانما تكتب عليهم.
ثانيا: يجب رفض اي ضغوط اسرائيلية وامريكية واوروبية لمنع اجراء تحقيق دولي مستقل في مجزرة السفينة التركية 'مرمرة'، ودعم بان كي.مون امين عام الامم المتحدة الذي طالب بهذا الامر.
حكومة نتنياهو قالت على لسان سفيرها في واشنطن ميخائيل اورين انها ترفض مثل هذا التحقيق، لانها دولة ديمقراطية ولديها القدرة والحق في اجراء التحقيق بنفسها، وهذا كلام مردود على اصحابه، ويشكل حلقة جديدة من حلقات الكذب والخداع الاسرائيلية. فالدولة الديمقراطية لا تمارس اعمال القرصنة وخطف السفن وركابها، ولا تقتل الابرياء بالرصاص الحي (صحيفة 'الغارديان' البريطانية قالت ان التحقيقات في المجزرة اثبتت ان بعض النشطاء الاتراك قتلوا برصاص في جبهتهم ومن على بعد 45 سنتمترا).
ثالثا: لا بد من اللجوء الى المحاكم الدولية والمحلية في اوروبا وامريكا لرفع دعاوى قضائية ضد مجرمي الحرب الاسرائيليين المتورطين في هذه المجزرة، مثل نتنياهو وايهود باراك وزير الدفاع، وغابي اشكنازي قائد هيئة اركان الجيش الاسرائيلي. تماما مثلما فعل اليهود لمحاكمة مجرمي الحرب النازيين امام محكمة نورنبيرغ، وهناك العديد من المنظمات والجمعيات المتعاطفة مع القضايا الانسانية المستعدة للقيام بهذا العمل، فقط تحتاج الى الدعم المالي لتغطية نفقاتها، وهناك اكثر من الفي مليار دولار من الاموال العربية مستثمرة في الغرب يمكن استخدام بعض 'فراطتها' في هذا المضمار.
رابعاً: رفض جميع المقترحات التي تروج لها اسرائيل، وتجد دعماً في اوساط حكومات غربية، بتفتيش سفن الاغاثة في ميناء اسدود للتأكد من عدم وجود أسلحة على متنها، ثم السماح لها بالذهاب الى قطاع غزة. فالهدف من سفن الاغاثة هذه لم يكن محصوراً في ايصال المواد الأساسية، وانما كسر الحصار، ولفت الاهتمام الى السجن الكبير الذي يعيش فيه مليونا فلسطيني في ظروف معيشية وانسانية ونفسية صعبة.
خامساً: لا بد من التأكيد دائماً على حقيقة مهمة واساسية، وهي ان حصار قطاع غزة هو احد الاعراض الجانبية لمرض اخطر وهو الاحتلال الاسرائيلي للاراضي العربية، وحرمان اكثر من عشرة ملايين فلسطيني من حقوقهم وثوابتهم الوطنية مثل حق العودة واقامة دولتهم المستقلة على ارضهم وانهاء الاحتلال والاستيطان باشكاله كافة، وعودة القدس المحتلة الى السيادة العربية بجميع مقدساتها المسيحية والاسلامية.
' ' '
نخشى على هذه الهبة الشعبية الرائعة التي سادت العالم بأسره، انتصاراً للمحاصرين الصامدين في قطاع غزة من مؤامرات بعض الحكومات العربية التي كانت اكثر انزعاجاً من اسرائيل تجاهها، لانها تكشف تقاعسها عن اداء الحد الادنى من واجباتها القومية والاسلامية. مثلما نخشى على السيد رجب طيب اردوغان من ضغوط هؤلاء ومؤامراتهم وحملاتهم الاعلامية التي تشكك في نواياه، تماماً مثلما شككوا في كل القادة الشرفاء الذين انتصروا للحقوق العربية الاسلامية في فلسطين.
فالحكومة الاسرائيلية بدأت اتصالاتها ببعض المسؤولين العرب لاجهاض هذا الزخم الشعبي، وتطويقه قبل ان يتطور الى حرب سفن تتدفق الى القطاع من مختلف انحاء العالم.
فاحدى وكالات الانباء العالمية (وكالة الصحافة الالمانية) نقلت خبراً من القاهرة عن وصول مبعوث اسرائيلي سري الى القاهرة على متن طائرة خاصة لنقل رسائل الى القيادة المصرية حول كيفية تنسيق المواقف لمواجهة حملات كسر الحصار هذه، كما كشفت صحيفة 'الشروق' المصرية المستقلة قبل يومين عن اقدام الحكومة المصرية على فتح معبر رفح بناء على طلب رسمي اسرائيلي لتخفيف الحصار وامتصاص النقمة العالمية بعد مجزرة سفينة 'مرمرة'.
اسرائيل تعيش حالياً اسوأ ايامها، وتبدو منبوذة مكروهة مدانة بالقرصنة والاجرام في مختلف انحاء العالم، والغربي منه على وجه الخصوص، ونحن هنا نتحدث عن الشعوب اي الرأي العام وليس عن الحكومات المتآمرة الداعمة لجرائمها ومجازرها، فقد كان من المؤسف ان يبرق وليم هيغ وزير الخارجية البريطاني الى الحكومة الاسرائيلية مهنئا إياها على عدم استخدام العنف في تعاطيها مع سفينة ريتشيل كوري الايرلندية، وكأن خطف هذه السفينة المدنية بعد اقتحامها عمل مشروع وقانوني.
هؤلاء المسؤولون الغربيون المنافقون يجب ان يعروا امام العالم بأسره، وكذلك بعض وسائل اعلامهم التي ترفض ان تذكر اسم الشهيدة الامريكية ريتشيل كوري التي حملت السفينة الايرلندية اسمها، حتى لا تضطر الى الاشارة الى انها استشهدت سحقاً تحت عجلات بلدوزر اسرائيلي رمت بنفسها امامه لمنعه من هدم منزل في رفح المحتلة.
نحن لا نعمم.. واعترف انني شعرت لأول مرة في حياتي باني كاتب 'معتدل' بعد ان قرأت افتتاحيات صحف بريطانية مثل 'الغارديان'، و'الاندبندنت'، و'الديلي ميرور' وحتى مجلة 'الايكونوميست' الاسبوعية المحافظة، فما قالته هذه الصحف عن القرصنة الاسرائيلية والمجازر الاخرى في قطاع غزة ولبنان تتواضع امامه مقالاتنا لصدقها وموضوعيتها وانحيازها للحق والضعفاء في مواجهة الغطرسة الدموية الاسرائيلية.
ومن المؤسف ان تقوم صحف حكومية مصرية بانتقاد تركيا بدلا من الاشادة بجهودها لكسر الحصار، رغم ان العلاقات الرسمية بين القاهرة وانقرة كانت جيدة تقليديا حتى وقوع مجزرة الحرية.
وكأن البعض لا يريد ان يرحم ولا ان يترك رحمة الله تنزل على المحاصرين.
وبدلا من ان ينحاز اولئك الى الجماهير المصرية الغفيرة التي خرجت في 'جمعة الغضب' انتصارا لغزة، قرروا الاستمرار في المماطلة بادخال المساعدات رغم ان المعبر 'مفتوح' من الناحية الرسمية على الاقل.
شكرا لتواجدك زائر نورت الصفحة