منذ ان تسلم الرئيس محمود عباس مهامه رئيسا للسلطة الفلسطينية في رام الله، والرجل ينقض تعهداته، واقواله، الواحد تلو الآخر، الأمر الذي دمر مصداقيته، والشعب الفلسطيني بأسره في نظر العرب والعالم على حد سواء.
الرئيس عباس تعهد بعدم الذهاب الى المفاوضات بعد مؤتمر انابوليس في ظل استمرار الاستيطان.. وذهب. وقال انه لن ينتقل من المفاوضات غير المباشرة الى المباشرة الا اذا تحقق تقدم في الاولى، وها هو يستعد لشد الرحال الى واشنطن الاسبوع المقبل دون تلبية اي من شروطه.
لا نعرف كيف يطالب الرئيس عباس بمرجعية للمفاوضات الذاهب اليها، وهو في الأساس بلا مرجعية، وان كانت هناك واحدة، فهو لا يحترمها، ولا يحترم اعضاءها، ولا قراراتها، ولا نبالغ اذا قلنا انه لا يحترم الشعب الفلسطيني وآراءه، هذا اذا اعترف في الاساس بان هذا الشعب موجود.
في الماضي، والقريب منه خاصة، كان الرئيس عباس يلجأ الى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية المنتهية صلاحيتها، ولا نقول الى المجلسين الوطني والمركزي على عيوبهما لاستصدار قرار يبرر ذهابه الى المفاوضات والاستجابة للضغوط الامريكية، ولكن حتى هذه الخطوة الشكلية، لم يعد يلتزم بها او يلجأ اليها، وأصبح يقرر وحده مصير الشعب الفلسطيني، ويتفاوض وربما يوقع اتفاق سلام باسمه.
تسعة فقط من اعضاء اللجنة التنفيذية حضروا الاجتماع الاخير، ورغم ذلك قدم لنا تلفزيون 'فلسطين' الرسمي لقطة لغرفة مزدحمة بالمشاركين يترأسهم السيد عباس للايحاء بان النصاب مكتمل، والقرار شرعي، في واحدة من اخطر عمليات النصب السياسي التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، وبصفة مستمرة، هذه الايام.
فاذا كان الرئيس عباس لا يحظى بدعم الجبهتين الشعبية والديمقراطية، وحزب الشعب الفلسطيني، وبقايا جبهتي التحرير العربية، والفلسطينية، علاوة على فصائل دمشق العشرة، ومن بينها حماس والجهاد الاسلامي، والقيادة العامة، ومعظم حركات المقاومة في قطاع غزة، وفوق هذا وذاك المنتدى الاقتصادي الفلسطيني (الكومباردور او نادي رجال الاعمال) فمن الذي يحظى بدعمهم اذن؟ ويذهب لتمثيلهم في هذه المفاوضات؟
' ' '
بعد يوم من الموافقة على الذهاب الى واشنطن، جرى تسريب انباء عن غضب الرئيس عباس من بيان السيدة هيلاري كلينتون التي اكدت فيه ان المفاوضات ستتم دون اي شروط مسبقة، مرددة حرفيا مطالب بنيامين نتنياهو، وقيل ان ثورة غضبه هذه هدأت بعد مكالمات (اختلفت التسريبات حول عددها) من الخارجية الامريكية، ليخرج علينا الدكتور صائب عريقات بالقول إن الرئيس عباس لن يعود الى المفاوضات اذا ما جرى بناء حجر واحد في اي مستوطنة اسرائيلية.
الدكتور عريقات ينسى جميع 'اللنات' السابقة (جمع لن النافية والناصبة) والتي كان آخرها قبل ايام معدودة، ولم يجف حبرها بعد، حول الشروط الفلسطينية، ويمكن العودة اليها، وعلى لساني الرئيس عباس والدكتور عريقات، بالصوت والصورة، على موقع 'اليوتيوب'.
فلم يحدث ان عمرت اي 'لن' فلسطينية اكثر من ايام، واحيانا ساعات معدودة، لتستبدل بكلمة 'نعم' كبيرة ملحقة بمسلسل طويل من الشروحات والتبريرات الساذجة وغير المقنعة بالتالي.
فليس صدفة انه في كل مرة يقرر الرئيس عباس التراجع عن شرط من شروطه، أو كلها، والعودة الى المفاوضات، تتأخر رواتب الموظفين في السلطة (160ألف موظف) ونقرأ تقارير مطولة حول العجز في الميزانية وضخامته، والتهديد بعدم دفع رواتب الاشهر المقبلة، اذا لم تؤخذ المطالب الامريكية بعين الاعتبار.
أخطر 'انجازات' السلطة يتمثل في تحويلها ابناء الضفة وجزءاً من القطاع الى 'عبيد الرواتب' واخضاعهم لعملية 'ابتزاز' شهرية في هذا المضمار. وما نخشاه ان تؤدي هذه العبودية الى التنازل عن كل فلسطين او ما تبقى منها.
' ' '
أخطر 'انجازات' السلام الاقتصادي ومنظريه ومنفذيه، والسلطة التي تتبناه، هو مسح فصل مشرف من تاريخ الشعب الفلسطيني، وهو مرحلة ما قبل مجيء السلطة، عنوانه الابرز 'الخبز مع الكرامة'.
فالجيل الجديد من ابناء الضفة لا يعرف الانتفاضة، ولا اي خيارات اخرى للشعب الفلسطيني غير المفاوضات لاستمرار الحصول على المرتب آخر الشهر. الجيل الجديد لا يعرف ان اوضاع آبائه قبل مجيء السلطة كانت افضل كثيراً من الوضع الراهن، حيث كانت الأمور واضحة: احتلال اسرائيلي وشعب يقاومه بشراسة.
الآن هناك احتلال، ووكلاء محليون له، يسهرون على أمن (مستوطنيه وراحتهم) ويتصدون بشراسة لأي من يتطاول عليهم، او يحاول ازعاجهم حتى من خلال الأذان او ترتيل آيات من الذكر الحكيم عبر مآذن المساجد. رأينا قوات الأمن الفلسطينية تشكل امتداداً للأجهزة الامنية الاسرائيلية، وتنسق معها ضد شعبها او فئة منه تفكر بالعودة الى ثوابت ما قبل السلطة، وشاهدنا وزيراً للاوقاف يصدر 'فتاوى' تلبية لمطالب المستوطنين وليس للتحريض على مقاومة الاحتلال مثلما يقتضي الشرع والمنطق.
نتنياهو يكذب على الجميع، عرباً كانوا او امريكيين، ولكنه لا يكذب، بل لا يجرؤ على الكذب على حلفائه في الائتلاف الحاكم، او على الاسرائيليين، لان هناك من يحاسبه ويحصي عليه انفاسه، ويسحب الثقة بحكمه اذا لم يلتزم بالبرنامج الانتخابي الذي اوصله الى سدة الحكم، بينما ليس هناك من يحاسب الرئيس عباس، او يذكره ببرنامج انتخابي او يسحب الثقة من رئاسته، فقد انتهت هذه الرئاسة منذ عامين، ولم يتغير اي شيء، وما زال الرجل يتصرف وكأن الشعب الفلسطيني انتخبه بالاجماع ويتمتع بتفويض ابدي مفتوح.
' ' '
البيت الأبيض يعرف هذه الحقائق جيداً، مثلما يعرف تفاصيل عملية اتخاذ القرار في السلطة، والمحيطين بالرئيس ونقاط ضعفهم واحداً واحداً (لا نقاط قوة لديهم)، ولذلك يمارس ضغوطه، او يصدر اوامره وهو مطمئن للتجاوب معها فوراً دون اي 'ولكن' او تردد.
نحن امام 'مجزرة' سياسية جديدة للقضية الفلسطينية، واذلال جديد للسلطة، وسط مباركة من بعض قادة الاعتدال العرب سيجد الرئيس عباس نفسه في معيتهم في واشنطن، ربما لتشجيعه لكي تكون مصافحته لنتنياهو اكثر حرارة امام عدسات التلفزة التي ستكون حاضرة في واشنطن لتسجيل وبث هذا الاختراق الكبير في عملية السلام.
لن نضيف جديداً اذا قلنا ان هذه المفاوضات لن تتمخض عن تسوية عادلة او غير عادلة، لان كل هذا العرض هدفه تهيئة المسرح لحرب اخرى، ضد بلاد اسلامية اخرى، مجتمعة او منفردة، تتصدر جدول اهتمام الادارة الامريكية وحليفتها اسرائيل.
اسحق شامير رئيس الوزراء الاسرائيلي الاسبق، قال انه ذاهب الى مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 الذي انعقد للتغطية على تدمير العراق وقتل مئات الآلاف من ابنائه، للتفاوض مع العرب لأكثر من عشرين عاماً قادمة دون تقديم اي تنازل لهم عن اي شبر من ارض اسرائيل الكبرى.
من المفارقة ان ذراع شامير الايمن في مؤتمر مدريد كان نتنياهو. 'نبوءة شامير تحققت' فبعد عام تقريباً تدخل مفاوضات السلام بين العرب والاسرائيليين عامها العشرين، والنتائج على الارض معروفة للجميع ولا تحتاج الى شرح.
نتنياهو سيواصل السير على درب استاذه ومعلمه شامير، وسيحقق ما يريد طالما ان 'عبيد الرواتب' قبلوا بالسلام الاقتصادي، وفضلوا الخبز على الكرامة، ونسوا او تناسوا انهم ابناء اعظم انتفاضة في التاريخ الحديث.
القدس العربي
شكرا لتواجدك زائر نورت الصفحة