عندما صرح رئيس السلطة الفلسطينية المنتهية ولايته يوما بانه ذاهب إلى المفاوضات حتى وان كانت نسبة النجاح فيها واحدا بالمائة، فان الأمر قد أثار قلقا لدى كل المهتمين بالشأن الفلسطيني ودفع إلى طرح تساؤلات مقضة حول نمط التفكير الذي يحكم الوفد الفلسطيني المفاوض والى أين يأخذ القضية وما طبيعة 'الحلول' التي ينشدها، وبتعبير آخر ما هي ملامح الصفقة التي يسعى إلى عقدها مع الطرف الصهيوني برعاية أمريكية؟
في لحظة ما اعتقد البعض أن السلطة الفلسطينية تخضع لضغوط حادة للعودة إلى المفاوضات المباشرة، وأنها لم تتنازل عن ثوابتها بقدر ما هي تنحني أمام ظرف غير مناسب في انتظار تحقق الشروط الموضوعية المناسبة لإدراك غاياتها المشروعة التي هي غايات شعبها في ذات الحين، غير أن الذي جرى ويجري يدل على أن التصريحات النارية وحالة التمنع الخجول التي أبداها المفاوض الفلسطيني لا تتجاوز مجرد المناورة التكتيكية للتعمية على حقيقة مركزية، وهي أن التفاوض ليس مجرد أداة يتم تطويعها لتحقيق أهداف محددة لا أكثر، وإنما يتعلق بخيار استراتيجي وحيد لا رجعة عنه.. انه التفاوض دائما وأبدا، بحيث يحار المراقب السياسي المحايد في أسباب هذه العلاقة الايروسية ـ إن جاز التعبيرـ بين أبو مازن وجـــــماعته والمفاوضات إلى الحد الذي أصبحت معه غاية في ذاتهـــــا تُطلب لمتعة كامنة فيها لا يعلمها إلا أصحابها، فليس مــــهما ألا تكون ثمة مرجعية واضحة ولا ضمانات حاسمة أو أوراق ضغط لخوض مفاوضات مصيرية، بقدر ما يتعلق الأمر بمتعة الجلوس مع العدو على مائدة واحدة وتبادل الأنخاب والكؤوس. فما الذي ينتظره الشعب الفلسطيني من قيادة تخلت عن كل الثوابت وطرحت جانبا عذابات العقود السبعة في ظل الاحتلال، لتهتم فقط بإرضاء الوسيط الأمريكي وإشباع رغبة لامتناهية في الوصل مع الطرف الصهيوني.
إن محمود عباس يدرك قبل غيره أن كل تنازل يقدمه لن يمنحه شيئا من العدو بل سيـــــفقده احترام الخصوم قبل احترام شعبه، إلا انه يصر مع كل هذا على الذهاب إلى المفاوضات عاريا من كل أوراق القوة الضرورية لخوض الصراع على مائدة التفاوض، بل هو يمعن في جعل المشهد الفلسطيني أكثر دراماتيكية بارتجاله للقرارات في ظل غياب تفويض حقيقي من الشعب، وهو أمر يعود ـ ربما ـ إلى أن الخلفية التي ينطلق منها أبو مازن لا تستند إلى الإيمان بالمقاومة على نحو ما نجده لدى رجالات بحجم أبو عمار، وإنما كان يسخر دائما من الكفاح المسلح ويصفه بالعبثية وهو لم يُعرف إلا بوصفه عراب اتفاقيات أوسلو التي مثلت هي بذاتها مشكلة لا تزال الساحة الفلسطينية تعاني تبعاتها إلى اليوم.
فمنذ توليه رئاسة السلطة الفلسطينية لم يكشف أبو مازن عن أي قدرات قيادية أو أي كاريزما تؤهله لتوحيد شعب يخوض حربا ضد احد أسوا أشكال الاحتلال التي عرفها التاريخ، فقد كان زعيما فصائليا بامتياز، بل وناطقا باسم جناح معين داخل هذا الفصيل على النقيض تماما من الرئيس الراحل ياسر عرفات الذي كان قائدا لكل الشعب الفلسطيني بمختلف أطيافه.
ويتجلى الفشل في القيادة لدى أبو مازن أكثر ما يتجلى في عجزه عن إنهاء الانقسام الفلسطيني الحاد ولعب دور الزعيم الموحد، وإنما كان يسعى دوما إلى تكريس الفرقة والخلاف، سواء من خلال تصريحاته أو قراراته، والغريب انه في مقابل سعيه الدائم إلى التفاوض والحوار مع الصهاينة (سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة) فانه يرفض دائما أي تواصل مع حركة حماس ويضع شروطا تعجيزية لكل مصالحة معها، وفوق هذا هو يتعامل باستخفاف حتى مع الفصائل المنضوية تحت لواء منظمة التحرير التي تمثل دوما مساندا له في الكثير من سياساته (لاحظ ما تعرضت له مجموعات اليسار من قمع ومنع في رام الله عندما حاولت تنظيم مؤتمر تبدي فيه امتعاضها من قرار المشاركة في المفاوضات المباشرة). الآن وقد انتهى مبرر تجميد الاستيطان الذي استند إليه أبو مازن وفريقه في العودة إلى المفاوضات تجد سلطة رام الله نفسها أمام مأزق عدم تساوق الطرف الصهيوني معها وهي التي هددت طويلا بوقف التفاوض إذا تم استئناف الاستيطان، وهنا يأتي دور الأنظمة الرسمية العربية لتلعب دورها في خلق التبريرات المناسبة لتتواصل مسرحية التفاوض في مسارها العبثي ومن سار إلى غير غاية توشك أن تنقطع به مطيته.
إن الأمر هنا لا يتعلق بمجرد مواقف فردية يتخذها أبو مازن ولا تلزم غيره وإنما المشكلة تكمن في أن هذه المواقف تحولت إلى خيارات إستراتيجية للنظام الرسمي العربي، ويسعى فريق التفاوض إلى إلزام مجمل الشعب الفلسطيني بها وهو ما قد يؤدي إلى التفريط في الثوابت الوطنية الفلسطينية في صورة التوقيع على اتفاقيات تتعلق بالأمن والحدود واللاجئين، من دون العودة إلى مرجعية عليا ذات تمثيلية لغالبية الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الشتات. وهذا ما يدعو كل قوى المقاومة وكل الأطراف الحريصة على مصالح الشعب الفلسطيني أن ترتقي إلى مستوى التحدي التاريخي المطروح عليها الآن وهو منع هذا الفريق المفاوض من التلاعب بنضالات الشعب الفلسطيني وحفظ الدماء التي بذلها طيلة عقود، فاللحظة الحالية قد تكون حاسمة بحيث أن أي تراخ في اتخاذ مواقف حاسمة تجاه المؤامرة الحاصلة الآن في أفق تصفية القضية الفلسطينية بتواطؤ دولي وعربي رسمي قد يفضي إلى نكبة جديدة اشد وانكى من التي سبقت لأن تضييع الحقوق والتنازل عن الثوابت بإقرار طرف فلسطيني اخطر من اغتصاب الأرض ذاتها، وربما هذا ما يفسر الإصرار الصهيوني على ضرورة الاعتراف بيهودية دولة الكيان قبل كل شيء.
وأخيرا يمكن القول من دون مبالغة إن حاجة الطرف الصهيوني إلى التفاوض اشد من حاجة الفلسطينيين إليه، وان زعم أبو مازن بأن خوض المفاوضات ممارسة سياسية لا خسارة فيها هو موقف لا يدل على حصافة وتبصر أو قدرة على إدراك عمق الأزمة التي يعانيها المجتمع الصهيوني اليوم، فالهزائم الأخيرة التي لحقته على يد المقاومة في لبنان ثم في غزة ولَدت إحساسا عميقا لدى الصهاينة بما يسمى 'عقم الانتصار' لان الحروب المستمرة التي كان من المفروض في كل واحدة منها أن تنهي كل الحروب لم تأت لا بالسلام ولا بالنصر. وقد تبين للصهاينة أنهم وصلوا إلى الحد الأقصى في استخدام القوة والعنف من دون جدوى ولم يتمكنوا من انتزاع الاعتراف من الشعب الفلسطيني وكسر إرادة الرفض لديه وإنما ظلوا دائما كيانا منبوذا وغريبا عن الأرض العربية، فهل يدرك محمود عباس وجماعته أي خدمة جليلة يقدمونها للأعداء؟ فإن كانوا لا يعلمون فتلك مصيبة وان كانوا يعلمون فالمصيبة أعظم.
القدس العربي
شكرا لتواجدك زائر نورت الصفحة