استغفال المشاهد في الجزء الأخير من باب الحارة جاء الجزء الخامس والأخير من مسلسل باب الحارة ليشكل ذروة الاستغفال للمشاهد بين أجزائه جميعا ، والسبب معروف بالطبع ، فعندما يُكتب مسلسل لجزء واحد ، فإن الحبكة غالبا ما تكون منسجمة بمستوى معقول ، لكنها ما تلبث أن تبدأ بالتراجع مع افتعال وتلفيق أجزاء جديدة.
نكتب الآن بعد 30 حلقة من المسلسل ، وعلى مرمى بضع حلقات من النهاية المعروفة ، وأقله شبه المعروفة بكشف مؤامرات مأمون بيك (لا نعرف إن كانوا سيكتفون بثلاثين حلقة أم سيستخدمون سياسة المط ويجعلونها أكثر من ذلك) ، لكننا لم نجد في الواقع غير المزيد من الاستغفال والتلفيق ، وتبدل المواقف والأدوار والشخصيات (طبيعتها وليس الممثلين) ، مع بقاء أخرى على حالها مثل العقيد الجديد (معتز) الذي لم يغادر عصبيته التقليدية وجرأته الأقرب إلى التهور ، مشفوعة بقدر لا بأس به من الغباء الذي يتبدى من خلال حواراته مع "أبو حاتم" ، وليغدو الثنائي أقرب إلى نظرية "أنا المخ وأنت العضلات" في مسرحية مدرسة المشاغبين.
يبدو أن الكاتب والمخرج يعتمدان على قصر ذاكرة المشاهد الذي عليه أن ينسى كيف كانت طبيعة الشخصية لكل فرد من أفراد الحارة في الأجزاء السابقة ، وأقله الجزء الماضي ليجد نفسه أمام طبيعة جديدة ، فأبو ذراع الطيب يغدو قاتل العقيد أبو شهاب (وهو سكران كتبرير سخيف) ، وأبو خاطر الذي كان على وشك الموت بعد إصابته بجلطة في الدماغ يعود قويا يحضر الاجتماعات ويأخذ المواقف القوية ، بينما يتسامح إلى درجة مزرية مع زوجة ابنه "السخيفة" ، وعصام يتزوج الثالثة دون مبرر مقنع في حارة لم نسمع عن أي شخص تزوج اثنتين فيها ، حتى من كبار السن ، ولا تسأل بعد ذلك عن حجم الاستغفال في حكاية مأمون بيك ورجاله والنمس ، حيث يتحول "أعضاوات الحارة" إلى سذج أمامه (أعني مأمون بيك) باستثناء "أبو حاتم" ، وكذلك حجم الجرائم التي يرتكبها وتمر مرور الكرام.
نفاجأ بالطبع بين الجزء السابق والجزء الحالي بالطريقة الساذجة التي حُلت بها المشكلة مع الفرنسيين الذين تنازلوا عن حقهم من أجل تمرير مؤامرة مأمون بيك ، مع أننا نعرف أن تلك سياسة الإنجليز وليس الفرنسيين الذي يشتهرون بالعنف ، ولم يكونوا ليمرروا تمرد الحارة بتلك البساطة.
"أبو عصام" واكتشاف أنه في السجن وليس ميتا فصل آخر من الاستغفال ، تماما مثل حكاية قتل "العقيد أبو شهاب" على يد "أبو ذراع" ، وتبقى حكايات النساء ونميمتهن وزواجهن وحملهن هي الثابت في سائر الحلقات مع افتعال الكثير منها مثل حكاية فوزية والبنت الصغيرة التي عثرت عليها بعد موت جدها ، وسائر القصص والحوارات المشابهة التي لا معنى لها غير المط وافتعال المزيد من الأحداث والحلقات.
البعد الوطني غاب هذه المرة رغم حضوره الطاغي في الجزء السابق محاكاة لحرب غزة ، إذ لا يحضر إلا في مشاهد عابرة لثوار الغوطة ، أما صراع الحارات الذي حضر في الجزء الأول ، فقد تحول إلى تحالف إستراتيجي ، فيما بدت "أم جوزيف" ، وبالطبع من باب الوحدة الوطنية وتحالف الأديان سيدة الرجال العابرة للحارات ، كما بدا "أبو ذياب" بطلا استثنائيا جديدا جاء من السجن ليقف إلى جانب الحارة في صراعها مع مأمون بيك ، فقط لأنه عذبه في السجن،،
هناك الكثير مما يمكن أن يقال حول الجانب الفني في المسلسل ، مثل المكياج المبالغ فيه للممثلات ، بما في ذلك العجائز اللواتي يلبسن باروكات ملونة كما لو كن في شوارع باريس وليس في حارة شامية قديمة.
ليس هذا هو كل ما يمكن حشده من ملاحظات ، ومن مشاهد التلفيق والاستغفال ، بل حجم ما تذكرناه بناء على الحلقات المتفرقة التي شاهدناها ، لكن اللافت أن المسلسل ظل يحظى بنسبة مشاهدة لا بأس بها ، وإن تراجع في مواجهة حشد من المسلسلات الأخرى التي تكاثرت خلال هذا الشهر الكريم ، والتي يقال أن بعضها قد عليه من حيث نسب المشاهدة ، الأمر الذي لا بد أن يخضع لاستطلاعات ذات مصداقية لم تتوفر إلى الآن.
سبب ذلك هو بقاؤه ضمن سياق المسلسلات الآمنة التي يمكن للأسر متابعتها من دون شعور بالخوف من مشاهد سخيفة تصدم الوعي المحافظ ، فضلا عن القيم الجميلة التي يؤكدها وأكدها منذ جزئه الأول ، وحواراته بما تنطوي عليه من متعة أيضا.
ثمة جوع حقيقي للقيم الأسرية الجميلة ، إلى جانب قيم البطولة والرجولة والإيثار ونصرة المظلوم ، وكلما وجدت هذه القيم صداها في الأعمال الدرامية كانت نسبة المشاهدة أكبر بين الناس ، وكان أفضل بالطبع لو ظهرت هذه القيم ضمن نص وإخراج جيد ومقنع.
يا طالب العلم لا تبغي به بدلا *** فقد ظفرت ورب اللوح والقلم
وقدس العلم واعرف قدر حرمته *** في القول والفعل والآداب فالتزم
وانهض بعزم قوي لانثناء له *** لو يعلم المرء قدر العلم لم ينم
والنصح فابذله للطلاب محتسبا *** في السر والجهر والأستاذ فاحترم
ومرحبا قل لمن يأتيك يطلبه *** وفيهم احفظ وصايا المصطفى بهم
[/color][/b]