التفكير هو وظيفة العقل الأساسية والتفكر والتدبر والتأمل كلها مسميات لعملية تجعل العقل : عقلًا
قرأت له مزلآت وهذه منهـآ
المزلة الأولى : تعميم الحالات الخاصة
بعض الناس نظرته جزئية للأحداث ، والقياس عنده على ما يراه دائمًا مطّرد فما
يحصل له يظنه حاصلًا للجميع وما يسمع عنه يظنه كذلك عند غيره فحين يعنفها
زوج : ترى الرجال فجرة وحين يحسن إليه مدير : يتصور المديرين بررة وحين يرى
نظام مدينة يخيل إليه أنّها الدولة وحين يتعامل مع فرد يحكم من خلاله على شعب
والعاقل يضع الأمور في موازينها ولا يحمّل الأشياء أكثر من مضامينها فلكل حال
مقال ، ولا يستقيم لنا التعميم بحال
المزلة الثانية : تضخيم الصغائر
من طبيعة العقل البشري أن يركز على ما يراه مباشرة ، وهذا التركيز يجعل الأشياء
تظهر أكبر مما هي عليه في الحقيقة ، والوقوف عند الأشياء يجعلك ترى فيها ما لا تراه
خلال مرورك السريع عليها لذا كان النظر كثيرًا للصغيرة : يجعلها في مصاف الكبيرة أو أشد
وما ذاك إلا لأنها تضخمت من كثرة ترداد البصر وتكرار النظر ، والعاقل يعلم أنه لو
كان في طريق سفر ووقف عند كل ما يراه على جنبات الطريق من الصغائر لما وصل
ويعلم أن الكبار إنما شُرع وقوفهم من أجل الأمور الكبار .
المزلة الثالثة : محورية الذات
بعض الناس يتصور أنّ ذاته محور من حوله ، فيريدهم أن يفكروا بما يفكر ، ويهتموا
بما يهتم ، ويهمشوا ما لا يهمه ، فإن طلب : انتظر تلبية حاجاته فورًا وإن سأل
ينتظر الجواب حالا وكأن الآخرين قد خُلقوا له وأنّ أعمالهم تتوقف من أجله فلا اعتبار لنفسيات وحاجات غيره
ولا تقدير لرغبات وطلبات من حوله فعليهم أن يعذروه إذا قصّر وعليهم أيضًا أن يفهموه إذا غيّر
وعليهم أيضًا ألا يتضايقوا من غضبه إذا عبّر ومثل هذا يَتعَب ويُتعِب ولن تستقيم له أمور
ولن تدوم له أنفس مالم يتدارك نفسه بعقال يلجم الذات وتغيير يصحح التفكير .
المزلة الرابعة : الاستسلام للأولية
من طبيعة النفس البشرية : الركون للمعلومة البكر وإن كانت عارية من الدليل ؛ لأن الجو قد خلا لها : فتمكنت
وحين تزاحمها معلومة أخرى تنقضها سواء كانت بدليل أو بدونه فإن النفس تلقائيًا
تجنح إلى تأييد الأولى وليس في هذا غضاضة إن كانتا بلا دليل فليست إحداهما
بأحق من الأخرى ولكن الأمر يختلف عندما يكون الدليل مع الأخرى وهنا يكون المحك بين الاستسلام
لسطوة المعلومة البكر أو الخضوع لسلطان الحجة والدليل فالنفس تميل إلى الأول
والعقل يدعو إلى الثانية
المزلة الخامسة : المعيار الذوقي
يضع بعض الناس ذوقه : معيارًا للآراء والأحكام فما يراه جميلًا هو الجمال بعينه وما يعده فنًا
هو الفن بذاته وما يعجبه هو المفضل دون شك وأما ما لا يتوافق مع ذوقه ، ولا
ينسجم مع اختياره : فهو الساقط الذي لا قيمة له ، والعقلاء في كل عصر ومصر
يعرفون أن أذواق الناس تختلف كما تختلف أشكالهم إذا لا تكاد تجد ذوقين متطابقين ومع أنّ هذه الحقيقة
واضحة للمتأمل وضوح الشمس في رائعة النهار ، إلا أن جل اختلافات الناس في ما
بينهم يكون من جملة أسبابها : هذا السبب !
المزلة السادسة : الاستغراق في اللحظة الحاضرة
من طبيعة النفس البشرية أنّ يتملكها الحاضر دون اعتبار للماضي أو تفكير في
المستقبل ، وهذا ما يفسر لك كثرة وقوعنا في الأخطاء ، إذ حين تستولي اللحظة الحاضرة على الأذهان : تغيب عنها الحقائق !
والتحدي يكون حين تقاوم هذا الطغيان الجارف للحدث اللحظي بحيث تجعله في حجمه الطبيعي
فلا يغلق عليك منافذ التفكير القويم ومن ثم تتخذ القرار بالتصرف السليم !
المزلة السابعة : السبب الواحد
تميل العقول البشرية في طبيعتها للأمور السهلة ؛ لأنها توفر عليها عملية التفكير المتعبة
فتركن لأي تفسير للظواهر وإن كان جزئيًا ، فتكتفي في تفسير حدوث حدث أو أحداث : بالسبب الواحد
وليت هذا يكون في الأمور الشخصية البسيطة فقط بل يتمادى فيشمل تفسير الظواهر الاجتماعية
والأحداث السياسية وكثيرًا من الأمور التي تُحيّر العصبة من أولي الفكر والنُهى والعاقل يعرف
أنّ لكل نتيجة مقدمة وهذه المقدمة تشمل أسبابًا رئيسية وأخرى فرعية ومن التسطيح
بمكان أن تختزل بسبب واحد.
المزلة الثامنة : وهم الاستغناء
من طبيعة الإنسان أن يطغى إذا رآه استغنى وكلما ظن الإنسان أنه مستغنٍ عن غيره : كان أقرب
للشدة والجفاء وكلما ظن أنه محتاجٌ لغيره : كان أقرب للرفق والصفاء وما أجمل
الرفق مع عدم الحاجة وما أقبح الشدة والإهمال مع عدم الاستغناء والعاقل يعلم تمام
العلم أنه ما دام حيًا فهو محتاج إلى الآخرين مهما كان ومهما كانوا ، سنة كونية ،
والحاجة هنا لا تعني التذلل ولكن أمور الحياة لا تستقيم ولن تستقيم لأحد دون مساعدة من أحد
ومن توهم الاستغناء عن الخلق : فقد ارتقى مرتقى صعبًا ومن كان في خدمة غيره :
سهل الله له من يخدمه .
المزلة التاسعة : الاعتقاد بلا دليل
عندما يغيب العلم ، وتميل النفس وتسيطر البيئة : يصدر الاعتقاد بلا دليل ، وهذا
النوع من الاعتقادات من أعصى الأشياء على التغيير -إن لم يتداركه توفيق- والمهندس الحاذق
لا يبني أبراجه بلا براهين ولا ينشئ الطرق بلا علامات لذا تواصى العقلاء قديمًا
وحديثًا : استدل ثم اعتقد ولا تعتقد قبل أن تستدل !
المزلة العاشرة : ماذا لاَ لماذا
مما جُبل عليه الإنسان أن يتعلق بالظواهر من الأمور ولا يميل إلى قراءة ما بين
السطور ، فكل الناس ترى وتسمع وتسأل : ماذا يحدث ؟! ، ولكن القليل منهم من يسأل : لماذا يحدث ما يحدث ؟!
، فاستكناه الأسباب واستمطار العلل واستنباط الحكم واجترار العبر ، بعيدة عن
التفكير السائد ، رغم أنها تفتح آفاقًا في الفهم وزيادة في العقل !
المزلات كثيرة ولا تسعها مقالة وإنما هي إشارة عابرة لعلها تضيء فيّ وفي من
أراد قناديل الفكر .