الحديث عن طفل لم يتجاوز الخامسة عشر عاماً إلا بستة أشهر أخرى قد لا يطول بامتداد سنوات وعيه منذ السادسة أو السابعة لكن الحال لدى أحمد أسعد طبيل مختلف فحياته لم تكن صفحة في كتاب أو رقم في موسوعة كانت أشبه بسيرة الصالحين في زمن لم يعد قائماً كان نفحات من نور وإيمان.. قبس من هدي..موسوعة علم متنقلة آخر رحلاتها بإذن الله إلى جنة الخلود.
كان عالماً صغيراً ليس في العلوم التقنية بل في العلوم الشرعية أيضاً فلم يترك دورة دينية سمع بها إلا وانضم لها وأبدع فيها، البداية كانت مع دورات تعلم أحكام التلاوة والتجويد فأنهاها بمراتبها المختلفة بتميز ومن ثمَّ عكف على حفظ القرآن كاملاً فأتمه في وقتٍ قياسي، واستزاد في علوم القرآن فالتحق بدورات ترتيل القرآن بالقراءات المختلفة وما كان منه إلا أن رتله بخمسة من قراءاته العشرة ولم يكتف بذلك فاستزاد من العلم الشرعي فدرس علم المواريث وتبصر في أحكامه وكما حفظ القرآن حفظ 1500 حديث نبوي فاستحق لقب عالم شرعي صغير.
التزم أحمد صلاة الفجر في مسجده الذي تخضب ركامه بدمه قبل أن يصح المؤذن بالصلاة يسرع الخطى إلى المسجد وإلى أحد أركانه يستقر يبدأ بالتسبيح ويشدو بآت القرآن حتى موعد الصلاة ولا يغادر إلا بعد شروق الشمس، في المسجد كان يغبطه صديق والده كان تماماً كأحمد ملتزم بأداء صلاة الفجر في المسجد ويحرص على أن يتواجد فيه قبل موعد الصلاة إلا أنه لم يفلح أبداً أن يسبق أحمد دوماً يجده أمامه.. فقط الآن لا يجده جسداً بل طيفاً.
مهندس الكترونيات
محطة أخرى في حياة أحمد كانت تستحق التوقف لإبصار تفاصيلها ممن كانوا شهوداً عليها، وتفاصيل الحديث تتلعثم على لسان أبيه بين أنين قاتل وحنين خجول، رغم سنوات عمره التي لم تتجاوز السادسة عشر إلا أنه كان متميزاً بارعاً في العلم مبدعاً في عالم التقنيات والتكنولوجيا كان أول طفل في قطاع غزة يتقن التعامل مع البرامج التقنية الحديثة في مجال الكمبيوتر والإنترنت، في المدرسة كان بين زملائه الأول وفي الثقافة العلمية أيضاً كان الأول، حرص على متابعة المسابقات الثقافية كان يجيبها بلا استثناء قبل أن يجيب المتسابقين، وما إن يسمع الإجابة حتى يطير فرحاً ويداعب أمه وأبيه "لو أنا مكانهم لفزت وجمعت لكما أموالاً كثيرة"، كان أحمد مميزاً في كل العلوم وتشهد له شهادات التفوق التي حفظتها أمه في ملف خاص به لتعينها على ذكرى الرحيل، هنا شهادة تكريم لحفظه كتاب الله وأخرى لحفظه 1500 حديث نبوي وثالثة لتميزه في كتابة القصة القصيرة ورابعة لتميزه في فن الخط العربي، كان موسوعة تتنقل بين العلوم الشرعية والعلوم الإنسانية والتقنية لكنه لم يعد هنا.
في غرفته على طاولة مكتبه كان يستقر جهاز كمبيوتر، كان لصديق شقيقه الكبير أتى به ليبصر علته ويصلح ما به من أعطال فقد اعتاد ذلك ولم يعجزه أي عطل عن إصلاحه أو إيجاد بديل له، يقول "كنت أراه مهندس إلكترونيات عبقريا، انتظرت تخرجه من الثانوية العامة وكنت أتوقع أن يحصد المرتبة الأولى على القطاع في الفرع العلمي لتميزه.. لكنه رحل ولم يحقق أي من أحلامي ولا أحلامه ولا أحلام أمه".
ودود حميم
للعين أن تدمع على ذكرى حبيبٍ مودع وللقلب أن يعتصر ألماً على فراق سيطول أبداً إلى حين لقاء آخر في رؤيا مبشرة بخلود في جنة عرضها السماوات والأرض.
رولا أمام ذكرى فراق أحمد وقفت تبكي لقد كانت مستودع أسراره والعكس صحيح، كان صديقها الذي لا يبخل عليها بالنصيحة وشقيقها المحب ولأمه كان الابن البار الطيع ولأبيه كان الرفيق الصاحب لم يفارقه وكان ظلاً ظليلاً الآن رحل الظل..
في الثالث من يناير 2009 وقت آذان المغرب صدح صوت المؤذن للصلاة فلبى (أحمد) النداء عاجلاً في مسجد إبراهيم المقادمة بمخيم جباليا، هناك صلى المغرب والعشاء جمعاً وقصراً بسبب أوضاع الحرب الدائرة لكنه لم يتم الدعاء والتسبيح كعادته خمدت أنفاسه وعشرات المصلين بعد أن استهدفتهم الطائرات الملغمة لسماء القطاع.
على فراقه بكت أمه واحمرت عيناها الخضراوين أما قلبها فهتف بذكرى حبيب مودع، جاءت بملابسه وقت استشهاده رائحتها تزكم الأنف مسكاً وعبيراً رغم مشهد الدم الملطخ لها، إلى قلبها ضمتها لكنها لم تغرقها بدمع عينها فقد رجاها ألا تبكيه قال:"أن الشهيد حين تصعد روحه لبارئها لا يشعر بألم فقط وخز بسيط ويلقى الله ربه في جنَّةٍ علياء"، وانتحت إلى غرفة أخرى تعبق بذكرى رحيله بيدها رفعت مفرش سريره كان قد رص تحته مئات الكتب الدينية أتى بها من مكتبة المسجد الذي استشهد تحت أنقاضه، تقول أمه:"استأمنته إدارة المسجد على كتب المكتبة جميعها فما من أحد يحفظها مثله"، وتتابع :"من قبل استأمنه أساتذته في مدرسة "أحمد الشقيري" على سجلات درجات الطلاب وعلى طباعة الامتحانات الشهرية ".
رحل أحمد سريعاً في قلب أمه ترك ألماً وذكرى لا ينساها العقل والفؤاد ولدى والده حسرة على ضياع حلم انتظر تحقيقه بأن يرى أحمد في ثوب التفوق بالثانوية العامة وبعدها مهندس كمبيوتر.