بسم الله الرحمن الرحيم
مواضيع ستم عرضها باذن الله
الأمن الغذائي في دولة الخلافة
أزمة غلاء الأسعار وطريقة علاجها
حماية البيئة
الغذاء، الصحة ، الزراعة ،
العملةوغيرها
، ,
الأمن الغذائي في دولة الخلافة
قال تعالى: (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ، قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) [يوسف 46-49].
هذه الآيات من سورة يوسف عليه السلام تدل على أن مشكلة الأمن الغذائي قديمة، فهي أقدم من المصطلح بكثير، وإن كان الإخبار عن مصر قبل وقوع المجاعة وحياً من عند الله، كان الحل وحياً من عند الله أيضاً عن طريق الادخار، ادخار الطعام لوقت الحاجة حتى لا يجوع الناس أو يموتوا من الجوع.
لما رأى المفكرون وخاصة في الغرب في بدايات القرن العشرين أن أعداد الناس تتزايد بالمليارات، تنبأ بعضهم بأن العالم سيعجز عن توفير الغذاء لهذه الأعداد المتزايدة، وفي عام 1968 كتب العالم البيولوجي المعروف (بول أيرلخ) في كتابه الشهير (القنبلة السكانية) ما نصه: «لقد انتهت معركة توفير الغذاء للجميع بالفشل التام، وسيعاني العالم في السبعينات من هذا القرن ( العشرين) من المجاعات وموت الملايين من البشر جوعاً»،وخاب ما تنبأ به،ولكن مشكلة توفير الغذاء قائمة، و الأصعب توفير الغذاء في حالات الحروب أو الكوارث الطبيعية، كالجفاف والزلازل والبراكين والأمراض الوبائية. ومن هنا ظهر مصطلح الأمن الغذائي
ولا يخفى على أحد خطورة عدم توفير لقمة العيش للناس في الظروف العادية، فكيف تكون الحال في ظروف الحصار والحرب، فكم من دول انهارت نتيجة نقص الغذاء والماء، وكم من دولة سلمت مقدراتها وخيراتها لغيرها من الأمم والشعوب من أجل الحصول على رغيف الخبز. فالأمر جد خطير، وناقوس الخطر يدق محذراً من المخاطر الكثيرة والكبيرة القاتلة.
فالأمن الغذائي: هو قدرة دولة ما على توفير الحاجات الأساسية من الغذاء والماء لأبنائها، وفي كافة الظروف العادية وغير العادية كالحروب والحصار والجفاف...
صحيح أن التنبؤ بأزمة عالمية في الغذاء قد كذبت،والله سبحانه وتعالى قد بين في كتابه العزيز أنه قدر في هذه الحياة أقواتها قال تعالى: (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) [فصلت 10]، فالغذاء موجود وهو بحاجة إلى الإنتاج وإلى التوزيع العادل. والقول إن ازدياد عدد الناس، وقلة الماء، وقلة الأرض الزراعية سبب في موت الناس جوعاً لا أساس له من الصحة،فقد تحدث المجاعة في أماكن قليلة السكان ولا تحدث في مناطق كثيرة السكان، فالصين لا تعاني مشكلة في الغذاء وفيها أكثر من مليار نسمة، ودول أفريقية تعيش على أنهار وهي قليلة العدد ومع ذلك أبناؤها يعيشون مجاعة دائمة.
ومع أن سكان العالم قد تضاعفوا منذ الحرب العالمية الثانية إلى اليوم، إلا أن إنتاج الغذاء قد تضاعف [ثلاث مرات] في الفترة نفسها.وهذا مطمئن،وبالتالي يرى بعض العلماء أن كوكب الأرض يستطيع إطعام 47 بليون نسمة، بالمستويات الممتازة الموجودة في الولايات المتحدة الأميركية، و157 بليون نسمة، بمستويات التغذية في اليابان، ويرى علماء آخرون أن الأراضي الزراعية لو أحسن استغلالها لأطعمت عشرة أضعاف عدد سكان العالم حالياً (6 بليون نسمة)، وبمستوى استهلاكي مرتفع.و ذهب علماء آخرون إلى مدى أبعد من كل ما سبق، حين قدروا أن كوكب الأرض يطعم 132.000 بليون نسمة، وهو رقم كبير جداً أشبه بالخيال، ذلك أن الإنسان لم يكتشف ولم يستثمر من طاقة الكون والطبيعة اللذين يعيش في كنفهما سوى 1% حتى الآن، رغم ثورات العلوم وقفزاتها الكبرى في القرن العشرين.
نعم، إن توفير الغذاء مسؤولية عظيمة، والإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، ومن رعايته توفير الأقوات للناس، حتى لا يجوعوا أولاً، وحتى تبقى الأسواق عامرة بالمواد الغذائية فتستقر الأسعار، ويقطع دابر المحتكرين. وخاصة الاحتكار العالمي الذي تقوم به حفنة من الرأسماليين، ومن باب الرعاية أن يحسب الإمام حساباً لأوقات الحروب والقحط العام والكوارث الجسام، حيث تقل الزراعة، وتضعف إمكانية نقل المواد. وبما أن حفظ النفس واجب فإن توفير الغذاء واجب لأن (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).
وتحقيق الأمن الغذائي يقتضي الأمور التالية:
أولاً: توفير الأغذية الأساسية عن طريق الإنتاج والاستيراد
أ- استغلال الأراضي الزراعية استغلالاً تستخدم فيه كافة الأساليب والوسائل العلمية الحديثة، وتشرف على العملية الزراعية مراكز أبحاث تنشئها الدولة لهذا الغرض. ولابد لدولة الخلافة، وعلى أية بقعة أرض، أن تزيد من الإنتاج الزراعي والحيواني حتى يحصل الاكتفاء الذاتي بل ويزيد. ومن الملاحظ أن الدول المتقدمة لديها فائض في الإنتاج، مع قلة مساحتها وكثرة سكانها. والدول الفقيرة لا إنتاج لها يكفيها، مع كثرة أراضيها، ووفرة مياهها وقلة سكانها. ومن قاعدة (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، يتوجب على الدولة أن توفر كل ما يؤدي إلى الاكتفاء الذاتي وزيادة.ومن الأمور التي يمكن للدولة أن تقوم بها في هذا المجال وضمن النظام الاقتصادي والتي تندرج في جانب منها تحت العلوم وينطبق عليها قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «أنتم أدرى بشؤون دنياكم», والتي يرجع فيها إلى أصحاب الخبرة:
1) التوسع في إنتاج الأرض أفقياً وعمودياً. وقد عالج الإسلام مسألة تعمير الأرض بقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «من أحيا أرضاً ميتةً فهي له» وقوله: «من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه».
2) تقديم زراعة المحاصيل المهمة لغذاء الإنسان على المحاصيل الأقل أهمية.
3) مقاومة التصحر.
4) إنشاء مراكز الأبحاث لتحسين البذور والأدوية وغير ذلك.
5) تأمين التسويق الزراعي داخلياً وخارجياً.
6) الاهتمام بالتصنيع الزراعي والحيواني، وخاصة ما فيه حفظ للأغذية لمدة طويلة.
7) إيجاد مراعٍ، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ». والاهتمام بتربية الحيوانات وفق أحدث الأساليب العلمية.
دعم الدولة للمزارعين ومربي المواشي، وتأمين ما يلزم لزيادة الإنتاج من أعلاف وأسمدة...
9) العمل على إيجاد مصادر غير تقليدية للغذاء ،كالبروتين وحيد الخلية طعاماً للحيوانات.
أما بالنسبة لتوفير الغذاء عن طريق الاستيراد فإنه جائز شرعاً بشرط أن لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، فقد كان المسلمون يشترون الحنطة والشعير والزبيب من نبط الشام سلفاً. واستيراد الأطعمة له مخاطر كثيرة يجب التنبه إليها.والحذر منها.
ب- التركيز على المواد الأساسية في الإنتاج الزراعي كالقمح والزيوت النباتية, والحيواني كاللحوم والحليب ومشتقاته والسمك والبيض.
ثانياً: تخزين هذه الأغذية فترة طويلة،أي لسنين. كتخزين القمح في سنبله أو حباً، ومجفف التمر والتين والعنب والزيوت، واللحوم المجففة والمعلبة، والحليب المجفف... ويفضل تخزين المواد الغذائية التي وردت في كتاب الله وسنة رسوله.
هذا من ناحية دور الدولة في التخزين، أما الأفراد فيحثون على تخزين المواد الغذائية في بيوتهم, والتي يحتفظ بها لفترة طويلة كالقمح والزيوت وما يجفف من الثمار واللبن. جاء في صحيح مسلم عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يجوع أهل بيت عندهم التمر» وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «يا عائشة، بيت لا تمر فيه جياع أهله، أو جاع أهله». وقد ثبت أن المسلمين كانوا يدخرون التمر في زمن الرسول، وإباحة بيع العرايا خير شاهد على ذلك. وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث، لِيَتَّسِعَ ذو الطَّوْلِ على من لا طَوْلَ له، فكلوا ما بدا لكم، وأطعموا، وادخروا» الترمذي. وقال عليه الصلاة والسلام: «رحم الله امرأ اكتسب طيباً،وأنفق قصداً، وقدم فضلاً ليوم فقره وحاجته».
ولادخار المواد الغذائية ضوابط شرعية لا بد من مراعاتها:
أ) أن لا يؤدي ادخار الأفراد إلى احتكار السلع، وسحبها من الأسواق، وبالتالي ترتفع أسعارها في الأسواق. قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «كل محتكر خاطِئ»، وقال: «من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم فإن حقاً على الله أن يقعده بعُظم من النار يوم القيامة».
ب) أن لا يكون للناس حاجة فيما يدخر،فلا يدخر الطعام والناس جياع. فادخار الطعام يجب أن يكون من فائض الإنتاج. عن خيثمة قال: كنا جلوساً مع عبد الله بن عمرو إذ جاءه قهرمان له (الخازن بالفارسية) فدخل، فقال: أعطيتَ الرقيق قوتهم؟ قال: لا، قال: فانطلق فأعطهم،قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته».
ثالثاً: جعلها في متناول الناس عند الحاجة، وخاصة في الحروب والظروف غير الاعتيادية، تتولى دولة الخلافة تخزين المواد الغذائية ببناء صوامع القمح, ومراكز التخزين, والثلاجات الكبيرة, بحيث تكون متعددة متباعدة محمية من الأعداء, قريبة من التجمعات السكانية, يسهل نقل المواد الغذائية إليها ومنها إلى الناس.
رابعاً: المحافظة على أسعار المواد الغذائية ثابتة، بعيدة عن القفزات في أسعارها بحيث يتعذر على أفراد الرعية شراؤها.
إن الأصل في ما يأكله المسلم في كل الأوقات أن يكون قليلاً، فالمسلم يأكل ليعيش لا العكس، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمسلم يأكل في معي واحد» والمعنى فيه حض للمؤمنين على قلة الأكل، والكفار صفتهم كثرة الأكل كما وصفهم الله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ) [محمد 12]. ويقول (صلى الله عليه وآله وسلم): «طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة, وطعام الأربعة يكفي الثمانية».
أما بالنسبة للماء فموارد الماء كثيرة والحمد لله، فالأنهار والآبار الارتوازية متواجدة، وإقامة السدود في المناطق التي أمطارها شتاءً، والمناطق التي أمطارها صيفاً، ونقل الماء من منطقة إلى منطقة أخرى لتفي بحاجات الإنسان والحيوان والنبات. وتقوم الدولة بإيصال الماء إلى البيوت، وبتشجيع الناس على تخزين الماء في آبار قريبة من بيوتهم, لتكون في متناول أيديهم وخاصة في الظروف القاهرة. وترشيد استهلاك الماء واجب لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا تسرف في الماء ولو كنت على نهر جار».
خامساً: التوزيع العادل للطعام. كماً ونوعاً، ويكون هذا بما يلي:
أ- بالأحكام التي منعت أن يكون المال دولة بين الأغنياء، قال تعالى: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) [الحشر 7].
ب- وجوب الإطعام على المسلمين لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم به». ولقوله: «أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله».
أما دول الضرار التي ابتلي بها المسلمون اليوم،فإنها لا تعطي مسألة توفير الغذاء قيمة، لأنها أصلاً لا تعطي الإنسان ذاته قيمة، فالسودان مثلا يجوع سكانه، مع أن قيمة الحليب المراق على الأرض يقدر بسبعمائة مليون دولار سنوياً (تقرير الجزيرة 16/6/2008م. فكيف يجوع بلد فيه 35 مليون رأس بقر، بحسب إحصائية منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة لعام 1998م. وفيه 126 مليون رأس من الثروة الحيوانية، ولا نجد لها أثراً لا في غذاء أهل السودان، ولا في تصدير اللحم أو الحليب ومشتقاته أو الجلود.
ومنذ أربع وثلاثين سنة والفاو ترشح السودان مع كندا وأوستراليا لتكون سلة غذاء العالم. لأنه يملك مئتي مليون فدان من أخصب الأراضي الزراعية في العالم، وثروة مائية هائلة، من أنهار ومياه جوفية وأمطار. وتنوع في المناخ، ولكن سوء السياسة والإدارة والرعاية رفعت فاتورة وارداته من المواد الغذائية من اثنين وسبعين مليون دولار سنة 1990م إلى مليار دولار، وإذا كانت كندا وأوستراليا من أكبر مصدري القمح، فإن السودان من أكبر مستوردي القمح، إذ يستورد 2.2 مليون طن سنوياً.
هذه حال دول الضرار كلها، أرض خصبة واسعة، ومياه وفيرة، وعقول كبيرة، وسواعد عاملة، ولكنها تعجز عن توفير الغذاء في أوقات السلم فكيف توفرها في أوقات الحروب والكوارث الطبيعية!
إن الحل يكمن في تطبيق الإسلام، وإعادته إلى معترك الحياة، وتنصيب خليفة يسوسنا بشرع الله، يطبق أحكام الأراضي، ويوظف الإنتاج الوفير خير توظيف لمصلحة الأمة، ويزيد من إنتاج الأمة زراعياً وحيوانياً وصناعياً، لتستغني عن غيرها، ويصبح غيرها محتاجاً لها. اللهم عجل لنا بنصرك وفرجك.
من مجلة الوعي