الجمعة 28/7/1432 هـ
الموافق29/7/2011 م
رمضان قادم، فكيف يرانا؟
( الخطبة الأولى)
الحمد لله الذي من علينا بمواسم الخيرات وخص شهر رمضان بالفضل والتشريفات والبركات وحث فيه على عمل الطاعات والإكثار من القربات أحمده سبحانه على نعمه الوافرة وأشكره على آلائه المتكاثرة وأصلي وأسلم على أفضل من صلى وصام وأشرف من تهجد وقام ..........أما بعد:
أيها الناس: يقبل علينا قريباً شهر رمضان المبارك محملًا بعبير الطاعة وأريج القرآن، ومحفزًا لهمم المسلمين نحو المسارعة في الخيرات، من صيام وقيام وذكر وإطعام للفقراء والمساكين، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وعمل لإعزاز دين الله. ولكن هلاله هذا العام سيهل علينا ليجدنا أمة غير الأمة التي كان يعرفها هلال الخير والبركة أيام الرسول صلى الهل عليه وآله وسلم، وأيام الصحابة الكرام رضوان الله عنهم أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان طيلة عهود الدولة الإسلامية العزيزة الكريمة، حيث كان يهل عليهم بالأمن والأمان والسلامة والإسلام، هلال خير ورشد وبركة، ولكنه يهل علينا اليوم بالخوف والخطر وغياب حكم الإسلام، وضياع الرشد وقلة البركة. يطل علينا شهر الصيام الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، ليرانا للقرآن هاجرين، ولسنة نبينا عليه السلام غير مطبقين، ولسنة الخلفاء الراشدين المهديين مبدلين. يطل علينا رمضان ليرانا متفرقين ممزقين، تتنازعنا الأهواء الوطنية والنفعية والرأسمالية، وتعصف بنا إمرة السفهاء في نحو ستين دويلة مسخ لا تملك من مقومات السيادة شيئاً يذكر، حكاماً في قضايانا مفرطين، وعلى شعوبهم متآمرين، بعد أن أطل علينا رمضان أكثر من ألف مرة ونحن للدنيا سادة، وللعالم قادة، وفي كل مجال سراة مبدعين ومتفوقين، وفي دولة واحدة متحدين، وتحت إمرة أمير واحد كالبنيان المرصوص في سبيل الله مقاتلين. يطل علينا رمضان ليرى بلادنا محتلة، ومقدساتنا مغتصبة مدنسة، وشعوبنا مفرقة، وأبناءنا تائهة ضائعة، وثرواتنا مبددة، وقد ألقى الكفر في أرضنا بجرانه، وغرز في أجسادنا أنيابه، واستفحل نفوذه وعظمت سيطرته. يطل علينا رمضان ليرى جيوش المسلمين - حامية ديارنا المفترضة، وحاملة لواء دعوتنا المأمولة - قد نامت عن الثعالب التي تمكر بنا، بل أصبحت حامية لها، وحارسة على مصالح الغرب فينا. يطل علينا رمضان ونحن في إثبات رؤيته مختلفين، وفي صيامنا وفطرنا مشتتين متفرقين. يطل علينا رمضان ومشاكلنا كثيرة كثيرة، وبيوتنا مخترقة، والأزواج فيها متنافرة، والأبناء للآباء والأمهات عاقة، وحوادث البيوت والطرقات متزايدة. كيف لا؟ والطيش هو سيد الموقف، والرعونة حضارة وتقدم، وتقليد الكفار رقي وتمدن! كيف لا؟ وأعراسنا فيها الموسيقى الصاخبة والمفرقعات السخيفة المؤذية! وأكبر من ذلك وأعظم، فقد كثر القتل والخوض في الأعراض، وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم.
أيها الناس: إن شعيرة الصوم وحدة واتحاد؛ وحدة في موعد ابتدائها، ووحدة في موعد انتهائها؛ كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، وأي شيء أجمل من أن تعلن أمة الإسلام عبوديتها لربها وخالقها في توقيت واحد، في يوم واحد؟ ثم تحتفل كلها بيوم فطرها في موعد واحد، ويوم واحد، تخرج فيه أفواجًا لترفع التلبية والتكبير عاليًا نحو السماء، فأنى لمثل هذه الأمة الواحدة المترابطة أن تتجرع كئوس الذل من أعدائها، أو يسعى الخصوم بين أبنائها بالوقيعة والخصام؟! لقد عاشت أمة الإسلام ردحًا طويلًا من الزمن محفوظة الكرامة، مصونة الجانب، مهابة في عيون أعدائها، حين كانت على قلب رجل واحد، ولكن بعد أن أصابها داء الأمم وتفرقت واختلفت، هانت وتراجعت حتى طمع فيها أراذل الناس، وعلا التحوتُ الوعول، وصدّق عليها إبليس ظنه، فاتبعوه إلا قليلاً من المؤمنين، وصدق فيها قول الله عز وجل: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}.
أيها الناس: ها هو رمضان قد جاء يحمل معه تلك الرسالة الربانية لأمة الإسلام، أن تنفض عن كاهلها أثقال الخلاف والشقاق والتنازع، وأن تتوحد وتترابط فيما بينها لتكون جسدًا واحدًا، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى؛ فالصوم في حقيقته كف وامتناع، وهو إرادة وعزيمة، وما أحوجنا اليوم لتلك الإرادة القوية والعزيمة الصلبة، في زمن سقطت فيه الهمم، وخارت فيه العزائم، وضعفت فيه الإرادات؛ فإن أشد ما يعاني منه المسلمون هو غياب الهمة القوية والعزيمة الماضية نحو النهوض والتقدم، ولعل في شهر رمضان تدريبًا يوميًّا للمسلمين على ضبط رغبات النفوس، والتحكم في شهواتها. ففي كل يوم تتولد في نفس الصائم إرادة وعزيمة تمكنه من قهر نفسه ومنعها عن بعض رغباتها، وتستمر تلك الإرادة في التعاظم والتزايد خلال ساعات اليوم حتى تبلغ ذروتها، فإذا حان موعد الإفطار صدرت الأوامر بإعطاء الجائزة مقابل الفوز في مباراة الصبر، وهكذا يتواصل ذلك التدريب اليومي حتى يخرج الصائم من رمضان وقد قويت عزيمته، وصار قادرًا على توجيه نفسه حيثما أراد الله سبحانه وتعالى. إذ الصوم يربي المسلم على الممانعة والمقاومة، ويبث في نفسه روح التحدي والصمود؛ فهو يقاوم في كل لحظة من لحظات صيامه حاجة الجوع والعطش، ويصمد أمام غرائزه وشهواته، ويدخل في تحدٍّ مع ذاته كل يوم ينتهي بإعلان انتصاره حين يرفع المؤذن أذان المغرب. إن أمتنا اليوم في حاجة ماسة إلى بث روح التحدي والصمود في نفوس أبنائها في وجه محاولات دءوبة لطمس معالم الشخصية المسلمة، وتذويب هويتها المتميزة في زمن العولمة، وإلى تحفيز إرادة المقاومة والممانعة التي يولدها الصوم في وجدان الصائم؛ لمقاومة التطاول الغربي على ديار المسلمين وأوطانهم وأموالهم وأنفسهم، ونستخلص منها ما يكون دافعًا لنهضة الأمة وريادتها في هذا الزمن الصعب.
(الخطبة الثانية) أيها الناس: مع حلول شهر رمضان هذا العام تبدأ التحديات الحقيقية للصيام في الحر والقيظ، وسيستمر هذا التحدي لعشرة أعوام قادمة على الأقل، وهو عنصر تحد آخر ينبغي لنا أن نكون على مستواه في صيامنا وصبرنا، والأجر على قدر المشقة. وكان الحجاج لا يأكل إلا إذا أرسل إلى رجل يأكل معه، وذات يوم أرسل حارسه ليأتى له بمن يشاركه الطعام فلم يجد الحارس إلا أعرابياً ينام فى ظل شجرة، فأخذه معه إلى الحجاج، ولما وقف الأعرابي أمام الحجاج قال له الحجاج: اجلس لتتناول معي الغذاء، فقال له الأعرابي: لقد دعانى من هو أفضل منك لأتناول الطعام عنده. فقال الحجاج: ومن أفضل منى يا أعرابي؟ فقال له الأعرابي: إننى اليوم صائم ومدعو على مائدة الله جل جلاله. فقال له الحجاج: يا أعرابى أتصوم هذا اليوم وهو شديد الحرارة، فقال له الأعرابي: يا حجاج، أصومه ليوم أشد منه حراً. فقال له الحجاج: يا أعرابى صم غداً وأفطر معي اليوم، فقال له الأعرابى: يا حجاج، هل اطلعت على علم الغيب فوجدتنى سأعيش إلى الغد؟
أيها الناس: مع حلول شهر رمضان هذا العام – إذا لم تقم الخلافة - تكون الأمة الإسلامية قد بلغ مستوى الحضيض في كبوتها التي طالت، ويكون المسلمون مطالبين أكثر من أي وقت مضى بالالتفاف حول العاملين المخلصين لإعزاز هذا الدين بإقامة دولة خلافة المسلمين الثانية الراشدة على منهاج النبوة، ويكون العاملون عند أقصى درجات الرضا من الله عز وجل أنهم يقومون بأجل الأعمال في أحلك الظروف وأصعب الأحوال، وفوق ذلك يكونون صائمين في الحر والقيظ!
أيها الناس: إن لشهر رمضان مقدمات وحيثيات ونتائج، أما مقدماته ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى ليطلع إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا اثنين مشاحن أو مشرك"، وهو إشارة على تهيئة النفوس لاستقبال رمضان بنفوس مصطلحة تائبة عابدة مؤمنة. وأما حيثياته فصيام وقيام وصدقة وذكر، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وأعمال دعوة وجهاد في سبيل الله. وأما نتائجه فمغفرة وعتق من النار ونصر على النفوس وتفوق على الأعداء، ونشر لدين الله في الأرض. وهكذا هو شهر رمضان وما قبله وما بعده، تهيئة وزرع وحصاد في مواسم متكررة صاعدة حتى يلقى العبد ربه، وحتى يعم الإسلام الأرض كلها. وإننا لنرجو الله أن يحقق لهذه الأمة ما تصبو إليه من عز وسؤدد ونصر، وأن يقبضنا إليه ثابتين غير مبدلين. واجعل اللهم هلال رمضان القادم علينا آخر هلال يطل قبل إقامة الخلافة الإسلامية الراشدة الثانية على منهاج النبوة.