ماذا بعد أيلول..؟!
يرى العديد من المراقبين والمهتمين بالشأن السياسي العام بأن توجه القيادة الفلسطينية الذي يحظى على مساندة وارتياح قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني رغم بعض التحفظات والمآخذ على بعض القضايا وفي المقدمة منها المنظمة وحق العودة، يجب أن يقطع أي هذا التوجه مع المرحلة السياسية السابقة والتي كانت تعتمد على المفاوضات سواءً المباشرة أو غير المباشرة مع حكومات الاحتلال تحت الرعاية الأمريكية، حيث أن عشرون عاماً من المفاوضات لم تسفر إلا على مزيداً من الاستيطان واستغلته إسرائيل من اجل تكريس الوقائع الجديدة على الأرض وإقامة منظومة من الكنتونات والمعازل، علماً بأن حصار قطاع غزة يندرج في سياق هذا المخطط الإسرائيلي المجسد بسياسة المعازل والبانتوستانات.
ستفقد خطوة التوجه للأمم المتحدة معناها وقيمتها النوعية إذا كانت وسيلة تكتيكية للعودة إلى مسار المفاوضات، في ظل استمرار اختلال توازنات القوى لصالح الاحتلال الذي أصبح يقرر بالشأن الفلسطيني كقضية داخلية وليس كقضية شعب يريد الحرية والاستقلال، وفي ظل استمرارية الدعم الأمريكي اللامحدود وتكيف الإدارة الأمريكية المستمر مع اللاءات الصهيونية وعدم قدرتها على الضغط على الحكومات الإسرائيلية، وكذلك في ظل استمرارية عدم فاعلية الموقف الأوروبي بل وانشداده للمواقف الأمريكية والإسرائيلية عبر سياسة تقاسم الوظائف ما بينها وبين أميركا، حيث تكلفت أوروبا بالتمويل وبالفاعليات الاقتصادية مقابل تسليمها بأن الملف السياسي للقضية الفلسطينية محتكراً في يد الولايات المتحدة.
لقد تراجع الرئيس الأمريكي اوباما حتى عن مبدأ حدود الرابع من حزيران عام 67 كقاعدة للدولة الفلسطينية المستقلة أمام ضغط "الايباك" واللوبي الصهيوني، وأكد نتنياهو الذي استقبل بحفاوة بالغة بالكونغرس الأمريكي ان إسرائيل لا تشكل دولة احتلال وانه لا تراجع عن ضرورة إقرار الفلسطينيين والعرب بالمبدأ العنصري الذي ينادي به والمجسد بيهودية الدولة وكذلك تأكيده على رفضه لمبدأ الانسحاب من حدود الرابع من حزيران عام 67 إضافة إلى تمسكه باللاءات الصهيونية الرافضة لحق العودة أو تفكيك المستوطنات أو التفاوض حول القدس.
أمام ما تقدم عن اية مفاوضات يتحدثون وما هي المفاوضات التي يمكن العودة إليها؟ حيث ان إسرائيل تريد تحويل الفلسطينيين إلى عبيد في معازل وبانتوستانات يديروا شؤونهم الحياتية والمعيشية اليومية وهم فاقدي حرية الإرادة وتقرير المصير، هذا بتكثيف ما يريد الإسرائيليون الذين لا يقروا من زاوية المبدأ بأن هناك أراضي محتلة وان هناك شعب محتل.
إسرائيل بدأت تهدد الفلسطينيين مرة عبر تسليح المستوطنين وأخرى عبر حملة "بذور الصيف" التي شنت من خلالها حملة واسعة من الاعتقالات وثالثة بالتهديد بقانون الطوارئ التي تريد تطبقه على الأراضي المحتلة ورابعة بوقف تحويل عائدات الضرائب وخامسة عبر ضم بعض من أراضي الضفة إلى إسرائيل.
إن الخطوات والتهديدات الإسرائيلية تشير إلى امتعاضها وغضبها الشديدين جراء التوجه الفلسطيني إلى الأمم المتحدة.
كما ان علامات الغضب بدأت واضحة عبر ممثلي الإدارة الأمريكية وأعضاء الكونغرس سواءً من خلال التهديد بوقف المساعدات المالية للسلطة أو إغلاق مكتب "م. ت. ف" في واشنطن وقد وصل التهديد إلى الرئيس عباس نفسه حيث طالبت بعض الأصوات بالتحقيق في ثروة أبناؤه وفي أموال صندوق الاستثمار الفلسطيني، كوسيلة ابتزاز سياسي وهو ما يذكرنا بأشكال التهديد التي كانت تستهدف الرئيس الشهيد ياسر عرفات، عندما رفض مقترحات كامب ديفيد في عام 2000.
ربما سيخرج علينا البعض من الشريحة السياسية المتنفذة في "م. ت. ف" بأننا جربنا هذا الخيار ولم يحقق نتائج أي خيار التوجه للأمم المتحدة وبأن العالم ما زال أمريكياً، خاصة إذا ما قامت الأخيرة وهذا هو التوقع باستخدام حق النقض الفيتو، كما أن العالم لم يستطع مقاومة توجهات الهيمنة الأمريكية رغم تعاطفه معنا، وعليه فسيحاول هنا الاستنتاج بأنه ما دام الأمر كذلك فلنعد للمفاوضات تحت الرعاية الأمريكية وربما يجد مبرراً لرؤيته إذا قامت أمريكا او الرباعية الدولية بتقديم مقترح "مناورة" يقضى بأن هدف المفاوضات هو تحقيق الدولة على أساس الرابع من حزيران عام 67 بالمقابل الاعتراف بمبدأ يهودية الدولة.
ربما يضيف هذا البعض بأن اعتراف أكثر من مئة دولة بالعالم بعد التوجه للأمم المتحدة قد عدلت من موازين القوى لصالحنا الأمر الذي من خلاله نذهب إلى المفاوضات من جديد أقوياء.
وعليه فيجب ان ننتبه من هكذا تحليلات قد تخرج علينا ما بعد التوجه للأمم المتحدة، حيث ان هذا التحليل سيعيدنا إلى المربع الصفر في ظل إمكانيات أوسع للاحتلال لفرض شروطه على شعبنا.
أسئلة كثيرة تثار ما بعد التوجه للأمم المتحدة، هل ستبقى القيادة الفلسطينية متمسكة باتفاق أوسلو وخيار المفاوضات، ماذا بالنسبة للسلطة التي كان مخطط لها ان تتحول إلى دولة في عام 99، وبقيت حتى الوقت الراهن؟ ما هو مستقبلها، ماذا بالنسبة لنتائج وقف المساعدات لها، هل فكرت السلطة بالبدائل التمويلية والسياسية عربياً ودولياً، خارج دائرة التمويل المشروط سياسياً؟ كيف يمكن إعادة بناء وتطوير "م. ت. ف" بإشراك كافة القوى والفاعليات بها؟ ماذا بالنسبة لطبيعة المرحلة القادمة والصراع مع الاحتلال وما هي طبيعته وجهته؟!
إن ما تقدم من أسئلة وغيرها يجب ان يدفع العقل الجمعي الفلسطيني للتفكير الجاد بها للخروج برؤية موحدة وأشكال نضالية محددة متفق عليها ولعل المدخل لكل ذلك يكمن في تكوين القيادة الوطنية الموحدة المجسدة بالهيئة القيادية لـ"م.ت.ف" التي نص عليها اتفاق القاهرة.
إن العودة للمفاوضات ما بعد الأمم المتحدة سيعمل على إضعاف الموقف الفلسطيني ويبدد حالة التعاطف الشعبي والدولي مع قضيتنا، ويؤدي لفقدان المصداقية والثقة بالقيادة الفلسطينية وسيعمل على تعميق الانقسام بالساحة الفلسطينية، الأمر الذي يتطلب العمل الفوري على تنفيذ اتفاق القاهرة وفي المقدمة منها الهيئة القيادة المؤقتة لـ"م. ت. ف" وتشكل حكومة الكفاءات الوطنية.
لقد بات شعبنا ما بين التوجه للأمم المتحدة أحوج ما يكون إلى الوحدة الوطنية وليس فقط إلى المصالحة على اعتبار ان الوحدة شكلاً راقياً من التحالف الجبهوي والكفاحي من اجل تحقيق إرادة جماعية موحدة في مواجهة الاحتلال والذي باتت أهدافه واضحة في محاولاته العديدة لتحويل شعبنا إلى مجموعة سكانية متناثرة متكيفة مع شروط الاحتلال والقمع والاستبداد الأمر الذي يرفض كافة أبناء شعبنا خاصة في ظل أجواء الربيع العربي التي عززت من دور الإرادة الشعبية بالتغيير من اجل الحرية والديمقراطية والكرامة.
وعليه فمن الضروري ان تعمل الهيئة القيادية لـ"م.ت.ف" على التالي:-
1. إجراء مراجعة نقدية جادة للمسيرة السابقة.
2. تحديد اسس ومرتكزات المرحلة القادمة عبر رؤية سياسية واضحة ترتكز إلى الإجماع الوطني من خلال التوافق على برنامج العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة في حدود الرابع من حزيران عام 67 "وثيقة الوفاق الوطني 2005" كهدف يشكل نقطة إجماع ولا يلغى اجتهادات البعض برؤى وخيارات أخرى أي في إطار العمل الجبهوي المشترك.
3. الاتفاق على أشكال النضال مثل المقاومة الشعبية وحملة المقاطعة ونزع الشرعية عن الاحتلال وتصعيد حملة التضامن الشعبي ومقاضاة مجرمي الحرب الاسرائيلية، إضافة إلى تعزيز الصمود الوطني من خلال منهجية الاقتصاد المقاوم.
يجب ان تكون خطوة التوجه للأمم المتحدة في ايلول نقطة مفصلية فارقة من المرحلة القادمة من أجل الحفاظ على قيمتها النوعية وزخمها، وتدشين مرحلة سياسية جديدة تؤكد اننا ما زلنا نمر في مرحلة تحرر وطني ونضالي وليس في مرحلة حل أو مفاوضات.