الأخبار التي تتناقلها وسائل الإعلام ليست سوى مقدماتٍ لإفعال سياسية أكثر أهمية من الأخبار نفسها، فاستئناف المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين تقع أيضا ضمن هذه النظرية، فليس غريبا أن تحاول أمريكا الحصول على أكبر نصيبٍ من الكعكة، فهي في ضائقة سياسية، لأنها لم تحسن إدارة ملف ما سُمِيَ بالربيع العربي، فقد نجحت أمريكا في إعادة صياغة المنظومة العربية، وحولتها من دولٍ عربية، إلى كيانات متصارعة، وأمريكا لم تحسب حسابا لنتائج هذه الصراعات، فقد انقلبت موازين الكيانات العربية على أمريكا نفسها، وصارتْ أمريكا متهمة بدعم الإسلام السياسي، كما فعلت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حينما أنبتتْ في دفيئاتها ورعتْ الإسلام المتطرف الذي أسماه العالم وقتذاك الإسلام الإرهابي، إنها أمريكا التي أصبحت تخشى من نتائج أفعالها غير المحسوبة، عودةََ الدُّب الروسي والصيني إلى الساحة العالمية من جديد، ليس كقوة اقتصادية ، بل كقوة سياسية أيضا.
لذا ليس غريبا أن تلجأ أمريكا إلى تحقيق إنجازٍ على حساب أضعف الأطراف في الشرق الأوسط، وهو الطرف الفلسطيني، فبإرغام الفلسطينيين على المفاوضات، يتحقق إنجازٌ أمريكي في المنطقة بأرخص الأسعار، حتى ولو كان الإنجازُ شكليَّا، مجرد صورة تجمع بين المفاوض الفلسطيني والمفاوض الإسرائيلي.
تجدرُ الإشارة إلى أن أمريكا أهدتْ إسرائيل ملف التفاوض، ليس من قبيل التوافق الأزلي المسيحاني الصهيوني، بل لأن إسرائيل نجحت في إدارة ملف (إيران النووية) نجاحا باهرا، فقد واظبتْ على إشعار أمريكا بأنها تعتزم ضرب إيران وحدها، أي أنها ستورط أمريكا في حربٍ غير محسوبة العواقب، وهذا التهديد قد جلب لإسرائيل مئات ملايين الدولارات، مساعدات عسكرية وهبات، كرشاوى لتأجيل ملف ضرب إيران.
ستظل إسرائيل هي أكبر المستفيدين مما يجري من أحداث، فقد فشل معظم محللي السياسة في التنبؤ بأن حكومة نتنياهو يمكن أن تعود لطاولة المفاوضات، غير أن عودتها التكتيكية للمفاوضات كانت محسوبة بدقة، فقد جاءت العودة للمفاوضات لتحقيق مجموعة من الأهداف، أبرزها ملف إيران النووية، وسأقتبس من مقال الصحفي سافي رخلبسكي قوله:
"نتنياهو جاد في مهاجمة إيران، وليست موافقته على المفاوضات وإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين، سوى مقدمة لهذه الحرب، أو لعلها الوقود اللازم للطائرات التي ستقصف المفاعلات النووية في إيران" انتهى الاقتباس
أما الملف الثاني الذي نجحت فيه إسرائيل، هو امتصاص غضبة ثماني وعشرين دولة أوروبية(دول الاتحاد الأوروبي) أحسَّت بالقرف من تصرفات حكومة نتنياهو، وعدم انصياعه لكل المبادرات، فقرروا معاقبة إسرائيل، وذلك بإصدارهم بيانا يقضي بتمييز كل البضائع والوفود والاتفاقات والمؤسسات التي تقع في الخط الأخضر، واعتبارها ليست إسرائيلية ، بل هي فلسطينية مُحتلة وفق القانون الدولي، وحملَ هذا الإعلان أيضا تحذيرا مُبطَّناً لأمريكا التي اعتادت أن تستثني هذه الدول وتستأثر بملف التفاوض الفلسطيني الإسرائيلي وحدها.
كما أن إسرائيل نجحت حتى الآن في تخفيف حدة هذا القرار، وهي في الوقت نفسه تواصل جهودها لإلغائه، بعد أن سوَّقتْ صورةَ التفاوض الفلسطيني الإسرائيلي، على مأدبة إفطار رمضانية في مقر وزير الخارجية الأمريكي جون كيري قبل أسبوع، في كل وسائل الإعلام كإشارة إلى أن إسرائيل دولة سلام.
أما الملف الثالث فهو ملف داخلي إسرائيلي يُعزِّز الائتلاف الحكومي برئاسة نتنياهو، الذي وعد فأوفى، وعد بأن يعود للمفاوضات بلا شروط، وقد فعل، وعدَ زعيم حزب البيت اليهودي نفتالي بينت أو وزير الاستيطان، بأن يستمر الاستيطان وفق الخطة المرسومة، بل إن الاستيطان قد تضاعف مع الإعلان عن الجولة الثانية للمفاوضات، كما أنه أرضى كل أحزاب المعارضة، وعلى رأسها حزب العمل والحركة وكاديما وميرتس بموافقته على إطلاق سراح أسرى فلسطينيين، وفي الوقت نفسه أرضى المتطرفين في حزب الليكود، عندما أعلن بأن إطلاق سراح الأسرى مشروطٌ بتقدم المفاوضات، وعلى مراحل، وبشروط عدم عودة المُطلق سراحهم للممارسة الإرهاب، وإلا سيعتقلون من جديد.
أما الملف الرابع، فهو الملف السري الأمريكي الإسرائيلي، وهو يحتوي على ملفات عديدة، قد يُكشف النقابُ عن بعضها قريبا، أولها الدعم المالي والعسكري لإسرائيل نظير موافقتها على استئناف المفاوضات، والثاني ضمان أمن إسرائيل وحمايتها، بما يحمله هذا الملف من مكتسبات لإسرائيل، والثالث ملف علاقة إسرائيل وجيرانها مع مصر وسوريا والأردن ولبنان.
دنيا الوطن
شكرا لتواجدك زائر نورت الصفحة