من محاسن الإسلام أنه دين الفطرة، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ) كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه (، ذلك أن الإسلام هو دين الفطرة السليمة، وما عدا ذلك فهو طارئ ودخيل، ولو ترك الناس بصفاء فطرتهم وسلامة أصلهم ما اختاروا غير الله ربًّا، ولأخلصوا له العبادة والتوجه والولاء دون سواه، لاسيما وقد أخذ الله عليهم عهداً وأقرهم عليه وحذرهم من التنكر له.
قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 172].
وقال تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ [الروم: 30] وإلى الحنيفية هدى الله نبيه إبراهيم -عليه السلام- عندما راح يبحث بفطرته السليمة عن ربه، فهداه الله إلى اليقين.
قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنعام: 75 – 81].
وفي قصة الصحابي الجليل سلمان الفارسي -رضي الله عنه- مثالاً للباحث عن الحق بفطرته السليمة الصافية، يقول سلمان -رضي الله عنه-: "كنت فارسياً من أهل أصبهان من قرية يقال لها «حيان»، وكان أبي رئيس القرية، وأغنى أهلها غنى، وأعلاهم منزلة، وكنت أحب خلق الله إليه منذ ولدت، ثم ما زال حبه لي يشتد ويزداد على الأيام، حتى حبسني في البيت خشية عليَّ كما تحبس الفتيات.
وقد اجتهدت في المجوسية حتى غدوت قيم النار التي كنا نعبدها، وأنيط بي أمر إضرامها حتى لا تخبو ساعة في ليل أو نهار، وكان لأبي ضيعة عظيمة تدر علينا غلة كبيرة، وكان أبي يقوم عليها ويجني غلتها.
وفي ذات مرة شغله عن الذهاب للقرية شاغل، فقال: يا بني إني قد شغلت عن الضيعة بما ترى فأذهب إليها وتول اليوم عني شأنها، فخرجت أقصد ضيعتنا، وفيما أنا في بعض الطرق مررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يُصلون، فلفت ذلك انتباهي، لم أكن أعرف شيئاً عن أمر النصارى أو أمر غيرهم من أصحاب الأديان، لطول ما حجبني أبي عن الناس في بيتنا، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم لأنظر: ماذا يصنعون.
فلما تأملتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في دينهم، وقلت: والله هذا خير من الذي نحن عليه، فو الله ما تركتهم حتى غربت الشمس، ولم أذهب إلى ضيعة أبي، ثم إني سألتهم أين أصل هذا الدين قالوا في بلاد الشام.
ولما أقبل الليل عدت إلى بيتنا فتلقاني أبي يسألني عما صنعت؟ قلت: يا أبت إني مررت بأناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم، وما زلت عندهم حتى غربت الشمس، فذعر أبي مما صنعت، وقال: أي بني ليس لك في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه، قلت: كلا والله إن دينهم لخير من ديننا. فخاف أبي مما أقول، وخشي أن أرتد عن ديني، وحبسني بالبيت ووضع قيداً في رجلي، ولما أتيحت لي الفرصة بعثت إلى النصارى أقول لهم: إذا قدم عليكم ركب يريد الذهاب إلى بلاد الشام فأعلموني.
فما هو إلا قليل حتى قدم عليهم ركب متجه إلى الشام، فأخبروني فاحتلت على قيدي حتى حللته، وخرجت معهم متخفياً، حتى بلغنا بلاد الشام، فلما نزلنا فيها قلت: من أفضل رجل من أهل هذا الدين. قالوا: الأسقف راعي الكنيسة، فجئته فقلت: إني قد رغبت في النصرانية، وأحببت أن ألزمك وأخدمك، وأتعلم منك وأصلي معك. فقال: أدخل فدخلت عنده وجعلت أخدمه.
ثم ما لبثت أن عرفت أن الرجل رجل سُوء، فقد كان يأمر أتباعه بالصدقة، ويرغبهم في ثوابها، فإذا أعطوه منها شيئاً لينفقه في سبيل الله، أكنزه لنفسه، ولم يعط الفقراء والمساكين منه شيئاً، حتى جمع سبع قلال من ذهب، فأبغضته بغضاً شديداً لما رأيته منه.
ثم ما لبث أن مات، فاجتمعت النصارى لدفنه، فقلت لهم: إن صاحبكم كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها فإذا جئتموه بها أكنزها لنفسه، ولم يعط المساكين منها شيئاً. قالوا: من أين عرفت ذلك؟ قلت: أنا أدلكم على كنزه. قالوا: نعم، دلنا عليه.
فأريتهم موضعه فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهباً وفضة، فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه. ثم صلبوه ورجموه بالحجارة، وهكذا الخيانات واحدة تلو الأخرى.
وكان آخرهم لما حضرته الوفاة قلت له: إنك تعلم من أمري ما تعلم فإلى من توصي لي، وما تأمرني أن أفعل. فقال: يا بني والله ما أعلم أن هناك أحداً من الناس بقي على ظهر الأرض متمسك بما كنا عليه. ولكنه قد قرب زمان يخرج فيه بأرض العرب نبي يبعث بدين إبراهيم، ثم يهاجر من أرضه إلى أرض ذات نخل بين حرتين، وله علامات لا تخفى، فهو يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وبين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فأفعل.
ثم وافاه الأجل فمكثت بعده بعموريه زمناً إلى أن مر بها نفر من تجار العرب من قبيلة «كلب» فقلت لهم: إن حملتموني معكم إلى أرض العرب أعطيتكم بقراتي هذه وغنيمتي. فقالوا: نعم نحملك. فأعطيتهم إياها، وحملوني معهم.
حتى إذا بلغنا وادي القرى غدروا بي، وباعوني لرجل من اليهود، فالتحقت بخدمته، ثم ما لبث أن زاره ابن عم له من بني قريظة، فاشتراني منه، ونقلني معه إلى يثرب، فرأيت النخل الذي ذكره لي صاحبه بعموريه وعرفت المدينة بالوصف الذي نعتها به، فأقمت بها معه.
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- حينئذٍ يدعو قومه في مكة، لكني لم أسمع له بذكر، لانشغالي بما يوجبه عليَّ الرق، ثم ما لبث أن هاجر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى يثرب، فو الله إني لفي رأس نخلة لسيدي أعمل فيها بعض العمل، وسيدي جالس تحتها إذ أقبل عليه ابن عم له، وقال له: قاتل الله بني «قيلة» والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم اليوم من مكة، يزعم أنه نبي.
فما أن سمعت مقالته حتى مسني ما يشبه الحمى. ولما كان المساء أخذت شيئاً من تمر كنت جمعته وتوجهت به إلى حيث ينزل الرسول، فدخلت عليه، وقلت له: إنه قد بلغني إنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم، ثم قربته إليه، فقال لأصحابه: كلوا. وأمسك يده فلم يأكل، فقلت في نفسي: هذه واحدة.
ثم انصرفت وأخذت أجمع بعض التمر فلما تحول الرسول إلى المدينة جئته، فقلت له: إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمتك بها، فأكل منها. وأمر أصحابه فأكلوا، فقلت في نفسي: هذه الثانية.
ثم جئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ببقيع الغرقد، حيث كان يواري أحد أصحابه، فرأيته جالساً وعليه شملتان، فسلمت عليه، ثم استدرت انظر إلى ظهره، لعلي أرى الخاتم الذي وصفه لي صاحبي في عموريه، فلما رآني النبي أنظر إلى ظهره عرف غرضي، فألقى رداءه عن ظهره، فنظرت فرأيت الخاتم فعرفته، فانكببت عليه أقبله وأبكي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما خبرك؟ فقصصت عليه قصتي، فأعجب بها وسره أن يسمعها أصحابه مني، فأسمعتهم إياها، فعجبوا منها أشد العجب، وسُروا بها أعظم السرور".
هذه قصة إسلام سلمان -رضي الله عنه- وفيها العبرة وذلك أن الدين دين الفطرة: فطرة الله التي فطر الناس عليها.
.............................................................................