بسم الله الرحمن الرحيم
والإنسان حريص على رزقه كما هو حريص على حياته فكيف يدفع المرء عن نفسه القلق من أجل الرزق ، وكيف يمتنع الرجل عن ارتكاب المعاصي من أجل الرزق ، وكيف يحترز الإنسان عن أن يقف موقف مذلة من أجل الرزق . ما فلسفة المال في الإسلام ؟ من يملكه ؟ وكيف أن الإنسان مستخلف فيه ، ولماذا ينبغي أن نحافظ عليه ، ولماذا حرم الله التبذير والإسراف وإتلاف المال ؟ ولماذا فرض الإسلام على المسلم فرضاً عينياً أن يكسب رزقه بنفسه ؟ وهل هناك مكاسب للرزق محرمة تخفى على كثير من الناس ، وكيف يزيد الرزق من خلال الكتاب والسنة ؟ في هذه المقالة عن اللرزق إجابات لهذه الأسئلة . لقد خلق الله السماوات والأرض وما فيهما ، وهو المالك الواحد لكل ما في السماوات الأرض وبينهما ، وما تحت الثرى ، قال تعالى :
" لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى "
[سورة طه الآية : 6] فالمال الذي في أيدي الناس ملك لله تعالى وحده ، والدليل قوله تعالى :
" وَءَاتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي ءَاتَاكُمْ "
[سورة النور الآية : 33] لقد سمى الله المال الذي في أيدي الناس مال الله ، إلا أن الله جل جلاله تفضل على عباده باستخلافهم فيه ، قال تعالى :
"ء َامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ "
[سورة الحديد الآية : 7] فأصل الملك لله سبحانه وتعالى ، وأن العبد ليس له إلا التصرف ، والله جل جلاله سيحاسبه عن هذا المال من أين اكتسبه ، وفيم أنفقه ، وقد روى الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
((إن الدنيا حلوة خضرة وأن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون)) أما حينما يضاف المال إلى العباد ، كقوله تعالى :
" لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ "
[سورة آل عمران الآية : 186] لتبلون في أموالكم ، أضيف المال إلى العباد ، وأنفسكم ، فهذه الإضافة في رأي علماء التفسير لا تعني أن الإنسان مالك المال ، وإنما تعني أن الإنسان مالك حق الانتفاع به ابتلاء وامتحاناً . والمال بنص القرآن الكريم نعمة من نعم الله تعالى الدالة على رحمته بالإنسان ، فقد من الله على نبيه به فقال :
" أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى "
[سورة الضحى الآيات : 6 ـ 8] نعمة من نعم الله ، وسمى الله المال في القرآن الكريم خيراً ، قال تعالى :
" كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ "
[سورة البقرة الآية 180 ] وقد امتدح النبي صلى الله عليه وسلم المال فقال :
((نعم المال الصالح للمرء الصالح))
[رواه أحمد عن عمرو بن العاص] وقد نقل عن بعض أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أن أحدهم قال : " حبذا المال أصون به عرضي وأتقرب به إلى ربي " . وقد بين الله تعالى أن المال قوام الحياة ، وأن معايش الناس ، وقيامهم بالمال ، قال تعالى :
" ولاتُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا "
[سورة النساء الآية : 5] أي قياماً بها ، يقول بعض المفسرين : أي أنكم تقومون بها ، وتنتعشون ، ولو ضيعتموها لضعتم ، فكأن فيها قيامكم وانتعاشكم . وبما أن المال نعمة ، وخير ، وقيام الحياة ، فينبغي أن نحفظه ، وأن نحافظ عليه كي نلبي به حاجاتنا الأساسية ، وألاّ نضيعه ، وآية الدين التي هي أطول آية في القرآن الكريم تؤكد ضرورة حفظ المال ، ورعايته ، وعدم تضييعه من خلال كتابة الدين ، والاستشهاد بالشهود ، وأخذ الرهان ، وقد نهى الإسلام عن إضاعة المال الذي استخلف الله العباد فيه ، يقول عليه الصلاة والسلام :
((إن الله نهى عن ثلاث ، قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال)) ويقول الإمام النووي في شرح هذا الحديث : "إضاعة المال صرفه في غير وجوهه المشروعة وتعريضه للتلف ، وسبب النهي أنه إفساد ، والله لا يحب المفسدين ، ولأنه من أضاع ماله تعرض لأموال الناس بالاحتيال والعدوان ، وهل بعد هذا الفساد من فساد" ، لا زلنا في فلسفة المال في الإسلام . ولقد حرم الله التبذير أشد التحريم ، حين وصف المبذرين بأنهم إخوان للشياطين ، قال تعالى :
" وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا "
[سورة الإسراء الآية : 5] والتبذير في التعريف الدقيق هو الإنفاق في معصية الله ، وفي غير حق ، وقد نقل عن الإمام البخاري الذي نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله : لا تبذر أي لا تنفق في باطل ، ونقل عن ابن مسعود لا تبذر ، أي لا تنفق في غير حق ، وقد ذكر الإمام الشوكاني أن الشيطان كفور ، وأن المبذر أخ للشيطان ، فبالقياس المنطقي المبذر كفور ، لو أخذ الناس بهذا الأمر فامتنعوا عن تبذير أموالهم في المعاصي ، وفي الفساد لبقيت أموال ضخمة لتلبية الحاجات الأساسية للناس في الحياة ، هذا عن التبذير فماذا عن الإسراف ؟ قد لا ينفق المرء ماله في المعاصي لكنه ينفقه في المباحات من طعام ، وشراب ، ومسكن ، وملبس ، وزينة متجاوزاً حد الاعتدال ، باعتبار الكم ، أو متجاوزاً حد الاعتدال باعتبار النوع ، أو كلاهما معاً ، قال تعالى :
" يَابَنِي ءَادَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ "
[سورة الأعراف الآية : 31] أباح الله سبحانه وتعالى الأكل والشرب ، ونهى عن الإسراف ، قال بن عباس في تفسيره : "أحـل الله تعالى في هذه الآية الأكل والشرب ما لم يكن سرفاً أو مخيلةً " ، وقال بعض المفسرين : حذف مفعول ولا تسرفوا
( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ) لم يذكر المفعول به ، حذف المفعول في : ولا تسرفوا ، يدل على العموم ، أي لا تسرفوا في الأكل والشرب ، وفي أي شيء آخر ، ويؤيد تعليل النهي بأنه لا يحب المسرفين ، أي لا يحب جنس المسرفين، لأنهم يظلمون أنفسهم ، ويؤذون أبدانهم ، ويضيعون أموالهم ، ويخسرون آخرتهم ، وفي هذا وعيد للمسرفين بأنه لا يحبهم ، ولا يرضى عنهم ، والى جانب هذا نهى الله تعالى عن الإقتار الذي يسبب اللوم ، قال تعالى :
" وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا "
[سورة الإسراء الآية : 29] قال البيضاوي : في تفسيره في الآية تمثيلان لمنع الشحيح ، وإسراف المبذر ، نهى عنهما آمراً بالاقتصاد والاعتدال بينهما الذي هو الكرم . وقال ابن كثير في تفسيره فتقعد ملوماً محسوراً ، أي فتقعد إن بخلت ملوماً ، يلومك الناس ، ويذمونك ، وتقعد محسوراً متى بسط يدك فوق طاقتك قعدت بلا شيء تنفقه ، فتكون كالحسير ، أي كالدابة التي عجزت عن السير فتوقفت ضعفاً وعجزاً . والنجاة في القصد أي الاعتدال ، روى البيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
((ثلاث منجيات وثلاث مهلكات ، فأما المنجيات فتقوى الله في السر والعلانية ، والقول بالحق في الرضى والسخط ، والقصد - الاعتدال - في الغنى والفقر ، وأما المهلكات ، فهواً متبع ، وشح مطاع ، وإعجاب المرء بنفسه ، وهو أشدهن)) بهذا القصد في الإنفاق من صفات عباد الرحمن الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ، ولم يقتروا ، وكان بين ذلك قواماً ، قال تعالى في سورة الفرقان :
" وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا "
[سورة الفرقان الآية : 67] ولقد فرض الإسلام على العباد أن يسعوا ، ويبذلوا الجهد لكسب العيش ، فقد روى الطبراني عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
((طلب الحلال واجب على كل مسلم)) وجوباً فرضياً . وفي حديث صحيح أيضاً :
((طلب الحلال فريضة بعد الفريضة)) ومعنى فريضة بعد الفريضة ، أي فريضة تأتي بعد فريضة الصلاة ، والصيام ، والحج والزكاة ، أو هي فريضة مستمرة ، وقال بعض الأئمة : القصد بالقدر الذي لابد منه فريضة ، لأن ما يقيم المرء صلبه حتى يؤدي الفريضة يُعد فريضة ، فما لا تؤدى الفريضة إلا به يُعد فريضة ، وكذلك يعد التكسب فريضة عينية لتأدية الدين ، لأن الدين يجب أن يقضى ، وكذلك يعد التكسب فريضة عينية للإنفاق على الزوجة والأولاد ، لأن الإنفاق عليهم واجب ، وكذلك يعد التكسب فريضة عينية للإنفاق على الأبوين ، لأن الإنفاق عليهما واجب أيضاً ، وقد نقل ابن الجوزي عن محمد بن عاصم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا رأى شاباً فأعجبه سأل عنه هل له من حرفة ، فإن قيل : لا سقط من عينه ، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول : "إني لأكره الرجل فارغاً لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة " . هذه هي النصوص التي تؤكد وجوب العمل ، فماذا عن القدوة في كسب الرزق ، لقد كان الأنبياء والمرسلون قدوةً في هذا ، فما من أحد أكبر من أن يكسب رزقه بنفسه ، قال تعالى :
" وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا "
[سورة الفرقان الآية : 20] أي إنهم بشر ، وتجري عليهم كل خصائص البشر ، وهم قدوة للبشر ، ومن بشريتهم أنهم مفتقرون في وجودهم إلى تناول الطعام ، ومفتقرون من أجل الحصول عليه إلى المشي في الأسواق أي إلى كسب الرزق . وقد روى الإمام البخاري عن المقداد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
(((ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده ، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده)) ونبينا عليه الصلاة والسلام إمام الأنبياء والمرسلين ، وأكرم الأولين والآخرين ، وحبيب رب العالمين كان يرعى الغنم على قراريط لأهل مكة ، فقد روى الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
((ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم ، فقال أصحابه : وأنت يا رسول الله ، قال : وأنا كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة)) فالعمل شرف للإنسان . والنبي صلى الله عليه وسلم يبين من خلال توجيهاته ومواقفه ، لا بوصفه نبي هذه الأمة ورسول الله إليها ، ولكن بوصفه ولي أمر المسلمين ، يبين لأولي الأمر من بعده أن من واجب ولي أمر المسلمين أن يوفِّر الأعمال للعاطلين ، وأن يؤهلهم تأهيلاً نفسياً ومادياً ، فقد روى أبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله مالاً ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :
((أما في بيتك شيء قال بلى ، حلس - بساط - نجلس عليه وقعب نشرب فيه الماء ، قال ائتني بهما فأتاه بهما فأخذهم رسول الله بيده صلى الله عليه وسلم ، وقال لأصحابه من يشتري هذين ، قال رجل أنا آخذهما بدرهم يا رسول الله ، فقال عليه الصلاة والسلام من يزيـد على درهم قالها مرتين أو ثلاثاً فقال رجل أنا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه وأخذ الدرهميــن وأعطاهما للأنصاري وقال : اشتر بإحداهما طعاماً فانبذه إلى أهلك ، واشتر بالآخر قدومــاً وائتني به فأتاه به ، فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده الكريمـــة عوداً ثم قال : اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوماً ، فذهب الرجل يحتطب ويبيع وجاء وقد أصاب عشرة دراهم ، فاشترى ببعضها ثوباً وببعضها طعاماً ، فقال عليـه الصلاة والسلام : هذا خير لك من أن تجيء المسالة نكتةً في وجهك يوم القيامة ، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة ، لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفزع ، أو لذي دم موجع)) ماذا نستفيد من هذه القصة ومن توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام نستفيد أنه صلى الله عليه وسلم أهّل هذا العاطل تأهيلاً نفسياً ، حيث أمره بتزويد أهله بالطعام كي يفرغ من التفكير في شأنهم لبعض الوقت ، ولينقطع عن العمل ، وأهله مادياً حيث زوده بآلة العمل بعد ما شد عليها عوداً بيده الكريمة ، والأهم من هذا متابعة النتائج ، حيث أعطاه فرصة خمسة عشر يوماً لينظر بعدها إلى مدى نجاحه أو إخفاقه . ومن توجيهات عمر ابن الخطاب رضي الله عنه لبعض ولاته ، قال له : إن الله قد استخلفنا على خلقه لنسد لهم جوعتهم ، ونستر عورتهم ، ونوفر لهم حرفتهم ، فإذا وفيناهم ذلك تقاضيناهم شكرها ، إن هذه الأيدي خلقت لتعمل فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية " . هذا عن فلسفة المال في الإسلام وعن وجود العمل المشروع لكسبه ، وتحري الوجوه المشروعة في إنفاقـه ، فماذا عن الكسب الحرام ، وأكل أموال الناس بالباطل ، قال تعالى :
" وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ "
[سورة البقرة الآية : 188] لقد أشارت كلمة لا تأكلوا أموالكم إلى حقيقة خطيرة وهي ، أشارت إلى ما ينبغي أن يكون عليه المؤمنون من إخوة صادقة ، أو مشاركة وجدانية حانية ، يجسدها الشعور بأن مال أخيك هو مالك من زاوية أنه يجب أن تحافظ عليه وكأنه مالك ، وأن تصونه من التلف والضياع فلأن تمتنع عن أكله بالباطل من باب أولى ، وتشير هذه الكلمة ولا تأكلوا أموالكم ، أن هذا المال هو مالك من زاوية أخرى ، من زاوية أنه إذا أكلت مال أخيك أضعفته ، وفي إضعافه إضعاف لك ، فأنت بهذا كأنك قد أكلت مالك . وقد ثبت في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :
((كل المسلم على المسلم حرام ماله ودمه وعرضه))
" وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ "
[سورة البقرة الآية : 188] ومن أكل أموال الناس بالباطل الربا حيث يلد المالُ المال ، وتتعطل الأعمال ، وتفشو البطالة ، وترتفع الأسعار ، ويصبح المال دولة بين الأغنياء ، وتتسع الهوة بين الأغنياء والفقراء ، وبعدها تكون الأزمات المالية الطاحنة ، وروى مسلم عن جابر قال :
((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ، وقال هم سواء)) ومن أكل أموال الناس بالباطل الغش وللغش أنواع كثيرة وصور شتى ترجع في معظمها إلى المخادعة في إظهار شيء ، وإخفاء شيء في باطنه من ذلك إصدار ميزانيات وهمية لبعض الشركات فترتفع قيمة أسهمها ، ومن الغش الكذب في التعريف بالشيء ، فيعرف الرديء بأنه جيد ، وذو السعر الرخيص بأنه من الصنف ذي السعر العالي ، ومن الغش دس الرديء في ثنايا الجيد ، وبيعه جميعاً بقيمة الجيد دون بيان الواقع والحقيقة ومن الغش أن يقول البائع اشتريته بكذا كذباً ليخدع المشتري في هامش ربحه ، ومن الغش إخفاء العيب ، والتلاعب بالوزن والكيل ، والعدد ، والطول ، والمساحة ، والحجم ، ومن الغش تزوير منشأ البضاعة ، ومصدرها ، أو الكذب في صفاتها ، وفي تاريخ صلاحيتها ، ومن الغش عرضها بطريقة تزيد من مزاياها ، وتخفي من عيوبها ، ومن الغش توجيه المشتري إلى بضاعة رديئة كاسدة استغلالاً لجهله في نوع البضاعة ، ومن الغش استغلال جهل المشتري بثمن البضاعة ، ورفع السعر أضعافاً مضاعفة ، وهذا الجهول في نوعية البضاعة ، وفي ثمنها سماه النبي صلى الله عليه وسلم مسترسلاً ، فقال عليه الصلاة والسلام :
((غبن المسترسل ربى غبن المسترسل حرام))
[أخرجه الطبراني عن أبي أمامة] وكما يكون البائع غاشَّاً يكون المشتري أيضاً غاشاً ، حينما يستغل جهل البائع بقيمة بضاعته الحقيقية لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان لأنهم يجهلون قيمة بضاعتهم ، ولا يعرفونها إلا إذا دخلوا السوق . ومن أكل أموال الناس بالباطل ، الاحتكار وهو بالتعريف الدقيق حبس مال أو منفعة أو عمل ، والامتناع عن بيعه وبذله حتى يغلو سعره غلاء فاحشاً غير معتاد بسبب قلته أو انعدام وجوده في مظانه مع شدة الحاجة إليه، قال الإمام أبو يوسف : كل ما أضر بالناس حبسه فهو احتكار ، وقال بعض الفقهاء المحدثين : كل إيهام ، أو كل تضليل من شأنه أن يزيد في الطلب على السلعة مع قلة العرض تمهيداً لرفع السعر فهو احتكار ، وهذا الربح الزائد الذين يجنيه ، وهذا الربح الزائد الذي يجنيه المحتكر حرام ، لأنه ليس نظير زيادة في البضاعة ، ولا في صفاتها ، أو نظير خدمة خاصة يقدمها البائع ، ولم يؤخذ هذا المبلغ الزائد بالرضا الحقيقي من المشتري إنما هو إلجاء أصحاب الحاجات إلى شراء حاجاتهم بأكثر من أثمانها الحقيقية ، والمحتكر من خلال أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ملعون وخاطئ ، وقد برئت منه ذمة الله ، وقد توعده الله بالنار ، فقال عليه الصلاة والسلام :
((لا يحتكر إلا خاطئ)) وقال :
((الجالب مرزوق والمحتكر ملعون)) وقال :
((من احتكر الطعام أربعين ليلة يريد به الغلاء فقد برئ من الله وبرئ الله منه)) وقال :
(( بئس العبد المحتكر إن أرخص الله الأسعار حزن وإن أغلاها فرح)) وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على من ترك الاحتكار خوفاً من الله ، وإشفاقا على خلقه وتيسيراً لهم ، فقال عليه الصلاة والسلام :
((من جلب طعاماً فباعه بسعر يومه فكأنما تصدق به)) وقد تخفى بعض المكاسب المحرمة على كثير من الناس ، لكن الميسر والسرقة والغلول والرشوة والغصب والنهب ، هذه أنواع كثيرة من أكل أموال الناس بالباطل لكنها لا تخفى على الناس . والآن هل من وسيلة ذكرها القرآن الكريم وبينتها السنة المطهرة تزيد في الرزق ، وكل واحد من الخلق حريص على زيادة رزقه ، هل من وسيلة ذكرها القرآن الكريم ، وبينتها السنة تزيد في الرزق ؟ أضعكم بين النصوص وأترك لكم الاستنباط : السؤال الأول هل من علاقة بين الرزق وبين الاستقامة ، قال تعلى :
" وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً "
[سورة الجن الآية : 16]
" وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ "
[سورة الأعراف الآية : 96] آيتان قرآنيتان من عند خالق الكون ، هل من علاقة بين الرزق وبين الاستقامة ؟ هل من علاقة بين الرزق وبين الصلاة ، انظروا في قوله تعالى :
" وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى "
[سورة طه الآية : 132] هل من علاقة بين الرزق وبين الاستغفار ، انظر في قوله تعالى :
" فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا "
[سورة نوح الآية : 10 ـ 12] هل من علاقة بين الرزق وبين الشكر ، انظروا في قوله تعالى :
" وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ "
[سورة إبراهيم الآية : 7 ] هل من علاقة بين الرزق وصلة الرحم ، انظروا في هذا الحديث الشريف ، قال عليه الصلاة والسلام :
((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره - أي في أجله - فليصل رحمه)) هل من علاقة بين الرزق وبين الصدقة ، انظروا في هذا الحديث الشريف ، "
((استمطروا الرزق بالصدقة)) الصدقة تجلب الرزق . هل من علاقة بين الرزق وبين الأمانة ، انظروا في هذا الحديث الشريف ، "
((الأمانة غنًى)) بالمعنى المادي الأمانة غنًى ، والأمين ينال أثمن شيء ، وهو ثقة الناس . هل من علاقة بين الرزق وبين الإتقان ، انظروا في هذا الحديث الشريف ، "
((إن الله يحب من العبد إذا عمل عملاً أن يتقنه)) من أتقن عمله أحبه الله بنص هذا الحديث وأحبه الناس بديهةً ومن أحبه الله وأحبه الناس كان رزقه وفيراً . المبادئ والقيم والمثل لا تعيش إلا بالمثل الحي ، والمثل الحي يؤكد المبادئ ، ويحقق القيم ، ويجعل المثالية واقعاً ، والمثل الحي حقيقة مع البرهان عليها ، والمثل الحي نموذج إنساني خالد ، والمثل الحي نبراس للأجيال من بعده . أبو حنيفة النعمان الفقيه الكبير رحمه الله تعالى أكرم علمه ونفسه وحزم أمره على أن يأكل من كسب يمينه ، وأن تكون يده هي العليا دائماً ، وقد علم ، وأيقن أنه ما أكل امرؤ لقمةً أزكى ، ولا أعز من لقمة ينالها من كسب يده ، لذلك خصص شطراً من وقته الثمين لكسب رزقه فاتّجر بالخز أي بالقماش ، وكان له متجر معروف يقصده الناس فيجدون فيه الصدق في المعاملة ، والأمانة في الأخذ والعطاء ، وكانوا يجدون فيه أيضاً الذوق الرفيع ، وكان يأخذ المال من حله ويضعه في محله ، وكان كلما حال عليه الحول أحصى أرباحه من تجارته واستبقى منها ما يكفيه لنفقته ، ثم يشتري بالباقي حوائج القراء ، وحوائج المحدثين ، وحوائج الفقهاء ، وطلاب العلم ، وأقواتهم وكسوتهم . هذا أبو حنيفة النعمان ، هذا الفقيه الكبير الذي ضرب للناس مثلاً أعلى في كسب الرزق .والحمد لله رب العالمين