الاندماج الإسرائيلي في الكنعانيين ووقوعهم تحت
التأثير الديني والحضاري للكنعانيين
هكذا تشير نصوص العهد القديم إلى عدم قدرة القبائل الإسرائيلية على
القضاء على الكنعانيين وقبولهم في النهاية الحياة وسط الكنعانيين الأمر الذي أدى في
النهاية إلى اندماج الإسرائيليين في الكنعانيين وفي وقت مبكر إذ لم يتمكن البدو
الإسرائيليون من مقاومة الحضارة الكنعانية ولا من مقاومة الوقوع تحت التأثير
الديني الكنعاني: "وفعل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب وعبدوا البعليم، وتركوا الرب
إله آبائهم الذي أخرجهم من أرض مصر وساروا وراء آلهة أخرى من آلهة الشعوب الذي
حولهم ، وسجدوا لها وأغاظوا الرب وتركوا الرب وعبدوا البعل وعشتاروت، فدفعهم بأيدي
نهابين نهبوهم وباعهم بيد أعدائهم حولهم ولم يقدروا بعد على الوقوف أمام أعدائهم..
وأقام الرب قضاة فخلصوهم من يد ناهبيهم.. وقضاتهم أيضا لم يسمعوا بل زنوا وراء آلهة
أخرى وسجدوا لها"، ولم يتوقف الأمر عند حد الوقوع في عبادة الإلهة الكنعانية ،
ولكنهم اندمجوا اجتماعيا في الكنعانيين ووصل هذا الاندماج الاجتماعي إلى حد الزواج
من الكنعانيات: "فسكن بنو إسرائيل في وسط الكنعانيين والحثيين والموريين والفرزيين
والحويين واليبوسيين، واتخذوا بناتهم لأنفسهم نساء وأعطوا بناتهم لبنيهم وعبدوا
آلهتهم فعمل بنو إسرائيل الشرفي عيني الرب ونسوا الرب إلههم وعبدوا البعليم
والسوارتي.. والعشاروت وآلهة أرام وآلهة صيدون وآلهة موآب وآلهة بني عمون وآلهة
الفلسطينيين وبيد بني عمون ..ثم عاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب فدفعهم
الرب ليد الفلسطينيين أربعين سنة".
ويشترك في هذا الاختلاط بالكنعانيين والفلسطينيين أكابر بني
إسرائيل، فهذا شمشون يختار لنفسه زوجة من بنات الفلسطينيين: "ونزل شمشون إلى تمنة
ورأى امرأة في تمنة من بنات الفلسطينيين، فصعد وأخبر أباه وأمه.. فالآن خذاها لي
امرأة .. وفي ذلك الوقت كان الفلسطينيون متسلطين على إسرائيل"، ويروي سفر راعوث قصة
زواج اثنين من أبناء يهوذا بامرأتين موآبيتين أيام حكم القضاة.
ومن بين الأمور التي يتأثر فيها الإسرائيليون بالكنعانيين
والفلسطينيين وغيرهم التأثر بنظام الحكم عند هذه الشعوب، وقد وضح هذا التأثير في
مطالبة نبيهم صموئيل بأن يجعل لهم ملكا تقليدا للشعوب المحيطة بهم. ومن المعروف أن
النظام الذي كان سائدا حتى ذلك الوقت هو نظام القضاة الذين كانوا يحكمون في بني
إسرائيل فيقضون لهم ويديرون شؤونهم المختلفة ويتولون قيادة حروبهم: "وكان لما شاخ
صموئيل اخه جعل بنيه قضاة لإسرائيل... فاجتمع كل شيوخ إسرائيل وجاءوا إلى صموئيل
إلى الرامة، وقالوا له هو ذا أنت قد شخت وابناك لم يسيرا في طريقك، فالآن اجعل لنا
ملكا يقضي لنا كسائر الشعوب، فساء الأمر في عيني صموئيل إذ قالوا اعطنا ملكا يقي
لنا وصلى صموئيل إلى الرب فقال الرب لصموئيل اسمع لصوت الشعب فيكل ما يقولون لك،
لأنهم لم يرفضوك أنت بل إياي رفضوا حتى لا أملك عليهم.. ولكن أشهدن عليهم وأخبرهم
بقضاء الملك الذي يمتلك عليهم.".
ومن الواضح النظرة السياسية السابقة على قيام الملكية في إسرائيل
نظرة رافضة لنظام الملكية، فقد سبق أن رفض القاضي جدعون أن يعين نفسه ملكا أو أن
يعين عليهم أحد أبنائه ملكا: "وقال رجال إسرائيل لجدعون تسلط علينا أنت وابنك وابن
ابنك لأنك قد خلصتنا من يد مديان ، فقال لهم جدعون لا أتسلط أنا عليكم ولا يتسلط
ابني عليكم، الرب يتسلط عليكم".
ويشير رد صموئيل أيضا إلى رفض فكرة الملكية والحكم الملكي الوراثي ،
ويستند هذا الرفض إلى الصفة الدينية الثيوقراطية التي كان عليها اتحاد القبائل
الإسرائيلية في عصر القضاة، والذي ينتهي بصموئيل الذي يعتبر آخر القضاة في تاريخ
بني إسرائيل، فقد كان أساس هذا الاتحاد دينيا وليس سياسيا لأن القبائل التي أعلنت
الولاء ليهوه كونت اتحادا دينيا حول الإله المحارب وحول اعتقاد عام مرتبط بشريعة
مقدسة وبتأثير من الحضارة الكنعانية بدأت عملية توطين عبادة يهوه وتعديلها في اتجاه
يؤكد تأثير الدين الكنعاني الزراعي ، فبعد المكاسب التي حققتها القبائل الإسرائيلية
على حساب الكنعانيين والتي نتج عنها أن اتباع يهوه أصبحوا أصحاب أرض انتزعوها من
أصحابها الكنعانيين والفلسطيين وغيرهم.. أصبحت الحاجة ماسة إلى تغيير النظام
السياسي بهدف الدفاع عن المكاسب الاقتصادية فبدأت في الظهور فكرة الملكية تقليدا
للكنعانيين واستجابة لحاجة اقتصادية ويرفض جدعون وصموئيل هذا الاتجاه الجديد لما
فيه من رفض مباشر لحكم يهوه وملكه الاتجاه إلى نظام الملك السائد بين الشعوب الأخرى
في الشرق الأدنى، وقد أدت الظروف والضغوط المواتية إلى حدوث هذا التحول في تاريخ
الإسرائيليين من اتحاد القبائل المرتبط بعبادة يهوه إلى النظام الملكي المدني الذي
يسعى إلى المحافظة مع المكاسب الإقليمية والاقتصادية التي تحققت.
ومن أهم هذه الضغوط استقرار الفلسطينيين على الساحل الفلسطيني
وتقدمهم إلى المناطق الداخلية وإيقاعهم الهزيمة بالإسرائيليين مهددين الاتحاد
القبلي: "غدا في مثل الآن أرسل إليك رجلا من ارض بنيامين فامسحه رئيسا لشعب إسرائيل
فيخلص شعبي من يد الفلسطينيين"، وقد استولى الفلسطينيون أيضا على التابوت ودمروا
معبد شيلوه ، وأصبحت الحاجة ملحة إلى تعيين ملك يحكم باسم يهوه ويقود إسرائيل في
حروبها: "فأبى الشعب أن يسمعوا بصوت صموئيل وقالوا لا بل يكون علينا ملك فنكون نحن
أيضا مثل سائر الشعوب ويقضي لنا ملكنا ويخرج أمامنا ويحارب حروبنا"، فيستجيب صموئيل
مضطرا وغير مقتنع ومحاولا في نفس الوقت عدم السماح للملك المعين شاؤول بالجمع بين
الأمور الدنيوية والدينية حيث احتفظ صموئيل بإدارة شؤون الدين.
وفي إحدى فقرات صموئيل الأول إشارة إلى ندم اليهود على تعيين شاؤول
ملكا، ويشتم منه ندم إلهي على نظام الملكية ذاته: "والرب ندم لأنه ملك شاؤول على
إسرائيل" وفي موضع آخر: "وكان كلام الرب إلى صموئيل قائلا: ندمت على أني قد جعلت
شاؤول ملكا لأنه رجع من ورائي ولم يقم كلامي"، وكذلك: "لنك رفضت كلام الرب رفضك من
الملك... لأنك رفضت كلام الرب فرفضتك الرب من أن تكون ملكا على إسرائيل."
وهكذا تعددت التأثيرات الكنعانية على حياة الإسرائيليين الذين قدموا
إلى أرض كنعان من مصر بعد خروج موسى عليه السلام بهم فقد وقعوا تحت التأثير الديني
والسياسي والحضاري ببيئته الكنعانية، واندمجوا فيها اندماجا تاما، واخذوا عنها
نظامها السياسي، وتحولوا من نظام الحكم القبلي الذي اعتمد على القضاة في إدارة شئون
السلم والحرب إلى نظام الدولة بداية بشاؤول ثم وجود سليمان عليه السلام.