بقلم الصحفي معاذ مشعل*
الساعة الثالثة فجراً.. استيقظَ على صوت المنبه، بدأ أبو الحسن يتلمسُ خطواته رويداً رويداً، فأشعل إضاءة الحمام.. أتمَّ وضوءه وعاد إلى "بُرشه" وهو السرير الذي ينام عليه الأسرى، فأخرجَ مشطه وبدأ بتمشيط لحيته الطويلة، ووضع سجادةَ صلاته على الأرض وأخرجَ مصحفهُ الخاص من تحت السرير، وبدأ بالصلاة وقراءة القرآن حتى صلاة الفجر...
رفعَ مؤذنٌ آذان الفجر فاستيقظَ زملاءُ القيد، وصلينا الفجرَ في جماعةٍ بإمامةِ الشيخ أبو الحسن..
بدأَ صوته الجميل يصدحُ في أرجاء الزنزانة، مُليناً الصخرَ بعذوبةِ صوته، فاحمَّرتْ عيونٌ وبكتْ أخرُ..
لم أتصور في يوم من الأيام أن تجرؤَ دولةٌ على أن تعتقل ضريراً لأسبابٍ سياسية، أو حتى المقدرةَ على وضعه داخل سجنٍ بادعاءِ خطرهِ على أمن دولة إسرائيل.
فهذا الرجل الذي لم يبلغ من العمر سوى 44 عاما لم يرتكب جرماً سوى أن أهل قريته -المزرعة الغربية شمالي مدينة رام الله- أحبوه واحترموه، عدا عن كونه خطيب مسجد بلدتهم.
ساقتنيّ الأقدارُ لكي أُنقل إلى سجن عوفر غربي مدينة رام الله نهاية عام 2008م لألتقيَ به... بالنسبة إلى رجلٍ ضرير يجب أن يعتنيَ أحدٌ به على مدار الـ 24 ساعة، حتى يُساعد على قضاء حوائجه، ولكنه لم يكن بحاجةٍ إلى أحد، فقد كان قادراً على القيام بكل واجباته دون استثناء، وكأنه معتقلٌ بكامل قوته!!
وكانت إدارة السجن تعامله على هذا الأساس، ففي حالات نقله من سجن إلى آخر، أو إلى المحاكم الإسرائيلية فقد كانوا يكبِّلون يديه وقدميه خشيةً من هروبه!! وأذكرُ مرةً أنه مازحني قائلاً: "لو أنهم وضعوني على باب السجن، لن أستطيع العودة للبيت بدون مساعدة، فكيف لي أن أهرب من داخل أسوار مليئةٍ بالأشياك"!!
في أول مرةٍ رأيته فيها، كان يحملُ مصحفاً ضخماً في كلتا يديه، وهو مصحف "بريللي"، وكان يمررُ أصابع يديه على آياتٍ قرآنيةٍ ويقرأها بصوتٍ منخفض ويمشي في خط مستقيم جيئةً وذهاباً!!
فاستوقفتهُ وسألته: "هل كل القرآن موجودٌ هنا"؟ "أجابني ضاحكا: "يا ريت.. فهذا فقط جزأين من القرآن!! "قلت له:" يعني أنت تمتلك 15 مصحفا مثل هذا الحجم؟؟ فقال:" نعم".
نظرتُ تحتَ برشهِ الخشبيِّ فوجدتُ شنطةً كبيرةً ثقيلةً تحتوى على أجزاءٍ لهذا المصحف، يأخذهُ أينما نُقل من سجن إلى آخر، حتى عندما يأتي جنود الاحتلال لاعتقاله فإنه يأخذه معه!!
زاد إعجابي لهذا الشيخ عندما علمتُ أنه قد أتم حفظَ القرآن كاملا داخل سجنه، فلم أتخيل حجم المعاناةِ التي كابدها خلال سنوات اعتقاله الخمس حتى استطاع إتمامه!!
كان يطلبُ مني قراءة صحيفة القدس كلما توفرت نسخٌ منها داخل السجن، وكان يهتم بالتحاليل السياسية، وبمتابعة الشؤون الفلسطينية والدولية، ونتناقش ساعات وساعات في تحليل الأخبار والسياسة على اعتبار أنني "صحفي"، وكان يقرأُ ما بين السطور، وكنا نتناوبُ أنا وزملائي في الزنزانة على قراءة الكتب له، وكنا نتفاجأ كثيرا من حجم المعلومات التي يمتلكها عن الكتب التي نقرأ!!
قد يغضبُ الشيخ علي حنون "أبو الحسن" إنْ علمَ أنني كتبتُ عنه هذه المقالة، ولكنني أعتقد أن هذه من واجباتي كصحفيٍ اعتقلَ وشاهد قصصاً وأحداثاً بحاجةٍ إلى أن تُوَثّقَ وتسجّل، ويجبُ أن تُنشر.. فمعذرةً منك يا أبا الحسن..
تحية للأسرى في السجون
عذاب ان تحب
وعذاب ان لا تحب
والعذاب الاكبر ان تحب بلا امل