الحمد لله مدبرِ الشهور والأعوام , ومصرفِ الليالي والأيام ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ذو الجلال والإكرام ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوثُ رحمة للأنام ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأئمة الأعلام . أما بعد .. ونحن نستقبل العام الهجري الجديد ، لماذا التاريخ الهجري؟ .. وهل يعرف أبناؤنا وشبابنا تلك القصة العظيمة التي اختارها عمر (رضي الله عنه ) والصحابة لتكون تاريخاً للأمة .. تلك الحادثة التي نصر الله بها الدين، وقلب الموازين.
لقد مكث عليه الصلاة والسلام ثلاثة عشر عاماً بمكة يدعو إلى لا إله إلا الله .
سنوات طويلة من التعذيب والإيذاء .. والتشريد والابتلاء.
وبعد اشتداد الأذى ينام عليه الصلاة والسلام في ليلة من الليالي على فراشه فيرى دار الهجرة وإذا هي أرض ذات نخل بين لابتين .. إنها طيبة الطيبة .
ومن مكة ، تنطلق ركائب المهاجرين ملبيةً نداء ربها .. مهاجرةً بدينها ..مخلفةً وراءها ديارها وأموالها .
ويهم أبو بكر بالهجرة فيستوقفه الرسول (عليه الصلاة والسلام ) ويقول : لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً .
وعلى الجانب الآخر تشعر قريش بالخطر الذي يهدد كيانها بهجرته عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ، فتعقد مؤتمراً عاجلاً في دار الندوة للقضاء على محمد قبل فوات الأوان .
ويحضر الشيطان معهم على صورة شيخ نجدي ، قال بعضهم: احبسوه في الحديد حتى يموت ، وقال بعضهم : أخرجوه وانفوه من البلاد ، وبعد أن قوبل هذان الاقتراحان بالرفض تقدم فرعون هذه الأمة أبو جهل برأي خبيث ماكر فقال : أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتىً شاباً جليداً نسيباً ثم نعطي كل فتىً منهم سيفاً صارماً فيضربون محمداً ضربة واحدة فيقتلوه فيتفرق دمه في القبائل . فأعجب القوم بهذا الرأي حتى إن الشيطان الذي لم يستطع الإتيان بمثله أيده وقال : القول ما قال الرجل هذا الرأي لا أرى غيره .
ووافق الحضور على هذا القرار الغاشم بالإجماع
وبدأوا في التنفيذ .
وينزل جبريل فيخبر النبي (عليه الصلاة والسلام ) بتلك المؤامرة ويقول : يا محمد لا تبِت في فراشك الليلة .وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) .
وفي بيت أبي بكر، كان أبو بكر جالساً مع أهله في الظهيرة، إذ أقبل النبي عليه الصلاة والسلام متقنعاً مغطياً رأسه، ففزع أبو بكر لأنه (عليه الصلاة والسلام ) لم يكن يأتيهم في تلك الساعة .. يدخل النبي عليه الصلاة والسلام فيقول : يا أبا بكر أَخرِج مَنْ عندَك . قال أبو بكر : إنما هم أهلك يا رسول الله . قال: فإني قد أُذن لي في الخروج . قال أبو بكر : الصحبة بأبي أنت يا رسول الله . فقال : نعم . فبكى أبو بكر ولسان حاله يقول :
طفح السرور علي حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني
ويعود (عليه الصلاة والسلام ) إلى بيته ويعرّف علياً بالأمانات التي عنده ليؤديها إلى أهلها .. وفي ظلمة الليل يجتمع المجرمون ويطوقون منزله عليه الصلاة والسلام .
وفي هذه الساعة الحرجة يأمر النبي (عليه الصلاة والسلام ) علياً أن يبيت في فراشه وأن يغطي رأسه ببرده الحضرمي .
ويفتح النبي عليه الصلاة والسلام الباب .. ويخترق صفوف المجرمين ..يمشي بين سيوفهم وهم لا يرونه ، ثم يأخذ من تراب الأرض ويذره على رؤوسهم الواحد تلو الآخر ثم يمضي بحفظ الله .
وكان المجرمون ينظرون من شِق الباب فيرون علياً على الفراش ، فيظنون أنه النبيُ (عليه الصلاة والسلام ).. فلما أصبحوا اكتشفوا الأمر ، وأخذوا ينفضون التراب عن رؤوسهم .
سمعت قريش بالخبر فجن جنونها ، وثارت ثائرتها ، فوضعت جميع طرق مكة تحت المراقبة المشددة ، وأعلنت عن جائزة كبيرة قدرها مائة ناقة لمن يعيد محمداً أو أبا بكر حيين أو ميتين .
كان الرسول (عليه الصلاة والسلام ) يعلم أن قريشاً ستجدّ في الطلب شمالاً باتجاه المدينة . فاتجه هو وصاحبه جنوباً إلى غار ثور على طريق اليمن ، ولما انتهيا إلى الغار روي أن أبا بكر دخل الغار وسد جحوره بإزاره حتى بقي منها اثنان فألقمهما رجليه . ثم دخل رسول الله (عليه الصلاة والسلام ) ونام في حجر أبي بكر . وبينما هو نائم إذ لُدغت رجلُ أبي بكر من الجحر فتصبّر ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله (عليه الصلاة والسلام ) من نومه ، لكن دموعه غلبته فسقطت على وجه رسول الله (عليه الصلاة والسلام ) ، فيستيقظ ليرى صاحبه قد لُدِغ ، قال : يا أبا بكر مالك . قال : لُدِغت فداك أبي وأمي . فتفل (عليه الصلاة والسلام ) على رجله فبرأت في الحال .
عبدالله بن أبي بكر شاب ذكي نبيه ، بطل من أبطال الصحابة .. كان يصبح مع قريش فيسمع أخبارها ومكائدها فإذا اختلط الظلام تسلل إلى الغار وأخبر النبي (عليه الصلاة والسلام ) الخبر فإذا جاء السحر رجع مصبحاً بمكة .
وكانت عائشة وأسماء يصنعان لهما الطعام ثم تنطلق أسماء بالسفرة إلى الغار ولما نسيت أن تربط السفشقت نطاقها فربطت به السفرة وانتطقت بالآخر فسميت بذات النطاقين) .
وكان لأبي بكر راعٍ اسمه عامرُ بنُ فهيرة ، فكان يرعى الغنم حتى يأتيَهما في الغار فيَشْرَبان من اللبن ، فإذا كان آخرُ الليل مر بالغنم على طريق عبدالله بن أبي بكر ليخفي أثر أقدامه .
واستأجر رسول الله (عليه الصلاة والسلام ) رجلاً كافراً اسمه عبدالله بن أريقط وكان هادياً خريتاً ماهراً بالطريق وواعده في غار ثور بعد ثلاث ليال .
أعلنت قريش حالة الطواريء وانتشر المطاردون في أرجاء مكة كلهم يسعى للحصول على الجائزة الكبيرة . وصل بعض المطاردين إلى الجبل وصعدوه حتى وقفوا على باب الغار ، فلما رآهم أبو بكر قال : يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا .. لو أن أحدهم طأطأ بصره لرآنا . فقال له (عليه الصلاة والسلام ) : يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما )إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا(.
وفي رواية حسنها بعض العلماء ، أنهم نظروا إلى الغار وإذا العنكبوت قد نسجت خيوطها على الباب . فقالوا : لو دخل هنا لم تنسج العنكبوت على الباب ، فانقلبوا خاسئين .
مكث عليه الصلاة والسلام وصاحبه في الغار ثلاثة أيام ، ولما خَمَدت نار الطلب جاءهما عبد الله بن أريقط في الموعد المحدد ، فارتحلوا وسلكوا الطريق الساحلي .
وفي مشهد من مشاهد الحزن يقف عليه الصلاة والسلام بالحَزْوَرة على مشارف مكة ليلقي النظرة الأخيرة على أطلال البلدِ الحبيب .. بلدِ الطفولةِ والذكريات .. ويقول : أما والله إني لأعلم أنك أحب بلادِ الله إلي وأكرمِها على الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت.
وفي الطريق يمر الركب المبارك بديار بني مدلج ، فينطلق وراءهم سراقةُ بنُ مالكٍ على فرسه بسلاحه يريد الجائزة .. ويدنو منهم حتى سمع قراءة رسول الله (عليه الصلاة والسلام ) وهو يقرأ القرآن.. يلتفت أبو بكر فيرى سراقة فيقول : يا رسول الله أُتينا ، فيرفع النبي (عليه الصلاة والسلام ) يديه وهو ماضٍ في طريقه لا يلتفت ويقول : اللهم اكفناه بما شئت .. اللهم اصرعه .. وكان سراقة يجري بفرسه على أرض صلبة فساخت قدما فرسه في الأرض وكأنما هي تمشي على الطين فسقط عن فرسه ، ثم قام وحاول اللحاق بهم فسقط مرة أخرى ، فنادى بالأمان ، فتوقف (عليه الصلاة والسلام ) وركب سراقة فرسه حتى أقبل عليه وأخبره خبر قريش ، وسأله أن يكتب له كتاباً ، فأمر عامرَ بنَ فهيرة أن يكتب له وقال له : أَخفِ عنا . فرجع سراقة كلما لقي أحداً رده وقال : قد كفيتم ما ههنا . فكان أول النهار جاهداً على النبي (عليه الصلاة والسلام ) ، فأصبح آخر النهار مجاهداً عنه ، فسبحان مغير الأحوال .
وفي الطريق يمر الركب المبارك بخيمتي أم معبد فيسألها النبي (عليه الصلاة والسلام ) الطعام فتقول :
والله لو كان عندنا شيء ما أَعْوَزَكُم القِرى ، والشاء عازب والسنة شهباء .. يلتفت عليه الصلاة والسلام وإذا شاة هزيلة في طرف الخيمة فيقول : ما هذه الشاة يا أم معبد ؟ فتقول له : هذه شاة خلفها الجَهْد عن الغنم ، قال : أتأذنين أن أحلُبها . قالت : نعم إن رأيت بها حَلَباً . فدعا (عليه الصلاة والسلام ) بالشاة فمسح على ضرعها ودعا فـتـفجرت العروق باللبن فسقى المرأة وأصحابه ثم شرب (عليه الصلاة والسلام ) ، ثم حلب لها في الإناء وارتحل عنها .
وفي المساء يرجع أبو معبد إلى زوجته وهو يسوق أمامه أَعنُزَه الهزيلة . يدخل الخيمة وإذا اللبنُ أمامه ، فيتعجب ويقول : من أين لك هذا ؟ فتقول له : إنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت .
جزى الله رب العالمين جزاءه / رفيقين حَلاّ خيمتي أم معبدِ
هما نزلا بالبر وارتحلا به / فأفلح من أمسى رفيق محمدِ
وفي المدينة ، سمع الأنصار بخروجه عليه الصلاة والسلام ، فكانوا لشدة تعظيمِهم له وفرحِهم به وشوقِهم لرؤيته يترقبون قدومه ليستقبلوه عند مدخل المدينة ، فيخرجون كل يوم بعد صلاة الفجر إلى الحرة على طريق مكة في أيام حارة ، فإذا اشتد حر الظهيرة عادوا إلى منازلهم . فخرجوا ذات يوم ثم رجعوا عند الظهيرة إلى بيوتهم . وكان أحد اليهود يطل في هذه الأثناء من أُطُم من آطامهم فرأى رسول الله (عليه الصلاة والسلام ) وأصاحبه مقبلين نحو المدينة فلم يملك اليهودي أن صاح بأعلى صوته : يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون . فثار المسلمون إلى السلاح، وكان يوماً مشهوداً، وسمعت الرجة والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبر المسلمون فرحاً بقدومه، وتلقوه وحيوه بتحية النبوة ، وأحدقوا به مطيفين به ، والسكينة تغشاه ، والوحي ينزل عليه )فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير( .وبعد الهجرة ، مكث (عليه الصلاة والسلام ) في المدينة قرابة العشرة أعوام ، أقام فيها دولة الإسلام ، وبلغ البلاغ المبين ، وأكمل الله به الدين ، حتى أتاه اليقين .. بآبائنا هو وأمهاتنا، وجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، وحشرنا في زمرته، وتحت لوائه، وجمعنا به في جنات النعيم، إنه على كل شيء قدير