الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
.. الهجرة، تاريخ أمة، وقصة ملحمة، فيها من الدروس والعبر ما يضيق عنه المَقام، أذكر بعضها بإيجاز:
)درس في الحب : وقد قال الحبيب (عليه الصلاة والسلام ) :" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " .
هذا الحب هو الذي أبكى أبا بكر فرحاً بصحبته (عليه الصلاة والسلام ) . . . هذا الحب هو الذي جعل أبا بكر يقاوم السم وهو يسري في جسده يوم أن لدغ في الغار لأن الحبيب ينام على رجله .
هذا الحب هو الذي أرخص عند أبي بكر كل ماله ليؤثر به الحبيب (عليه الصلاة والسلام ) على أهله ونفسه هذا الحب هو الذي أخرج الأنصار من المدينة كل يوم في أيام حارة ينتظرون قدومه (عليه الصلاة والسلام ) على أحر من الجمر . فأين هذا ممن يخالف أمر الحبيب (عليه الصلاة والسلام ) ويهجر سنته أو يتخاذل عن الذب عن عرضه ، ثم يزعم أنه يحبه؟
يا مدعي حب أحمد لا تخالفه / فالخُلْف ممنوع في دنيا المحبينا
)الصبر واليقين طريق النصر والتمكين : فبعد سنوات من الاضطهاد والابتلاء بمكة ، كانت الهجرة بداية للنصر والتمكين لنبيه (عليه الصلاة والسلام ) وأصحابه ، بصبرهم ويقينهم بالله تعالى .
)درس في التوكل على الله والاعتصام بحبل الله : فقد كانت رحلة الهجرة مغامرة محفوفة بالمخاطر التي تطير لها الرؤوس .. ومع هذا فقد كان (عليه الصلاة والسلام ) في ظل هذه الظروف العصيبة متوكلاً على ربه واثقاً من نصره .
فالزم يديك بحبل الله معتصماً / فإنه الركن إن خانتك أركان
درس في التخطيط والصبر واتخاذ الأسباب :
لقد كان (عليه الصلاة والسلام ) متوكلاً على ربه واثقاً بنصره، ومع هذا كله لم يكن (عليه الصلاة والسلام ) بالمتهاون المتواكل الذي يأتي الأمور على غير وجهها . بل إنه أعد خطة محكمة، قام بتنفيذها بكل سرية وإتقان .. القائد فيها: محمد ، والمساعد: أبو بكر ، والفدائي: علي ، والتموين: أسماء ، والاستخبارات: عبدالله ، والتغطية وتعمية العدو : عامر ، ودليل الرحلة: عبدالله بن أريقط ، والمكان المؤقت: غار ثور ، وموعد الانطلاق: بعد ثلاثة أيام ، وخط السير: الطريق الساحلي .
وفي هذا كله دعوة للأمة إلى أن تحذو حذوه (عليه الصلاة والسلام ) في حسن التخطيط والتدبير، وإتقان العمل واتخاذ أفضل الأسباب، مع الاعتماد على الله مسبب الأسباب، أولاً وآخراً .
لماذا لم تكن الهجرة النبوية على نمط الإسراء والمعراج؟ هل يعجز الله أن ينزل جبريل والبراق ويوصل النبي (عليه الصلاة والسلام ) إلى المدينة في لحظات؟
إن رحلة الإسراء والمعراج رحلة فردية خاصة ،ومنحة ربانية للرسول (عليه الصلاة والسلام ) (لنريه من آياتنا).. أما رحلة الهجرة فهي رحلة منهج للأمة وبناء للدولة الإسلامية، لا يصلح فيها جبريل عليه السلام رفيقا، لأن دولة الإسلام لا يمكن أن تبنى على جناح جبريل، ولا يصلح فيها البراق مركباً، بل لا بد من الصبر والتضحية والتماسك ،والتدبير الجيد، وتوظيف المتخصصين كل في مجاله، ومجاهدة أخطار العدو .
درس في التضحية والفداء : فقد هاجر النبي (عليه الصلاة والسلام ) وأصحابه رضي الله عنهم ، ولم يتعللوا بالعيال ، ولا بقلة المال فلم يكن للدنيا بأسرها أدنى قيمة عندهم فداءً لأمر الله ورسوله (عليه الصلاة والسلام ) .
ويوم أن بات علي في فراشه (عليه الصلاة والسلام ) وغطى رأسه كان يعلم أن سيوف الحاقدين تتبادر إلى ضرب صاحب الفراش .. ويوم أن قام آلُ أبي بكر عبدُالله وأسماءُ وعائشةُ ومولاه عامرٌ بهذه الأدوار البطولية ، كانوا يعلمون أن مجرد اكتشافهم قد يودي بحياتهم .
هكذا كان شباب الصحابة ، فأين شبابُنا .. أين شبابُنا الذين يضعون رؤوسهم على فرشهم ولا يضحون بدقائق يصلون فيها الفجر مع الجماعة .
أما آن للشاب أن يستيقظَ من غفلته ، ويتوبَ من خطيئته ، ويهاجر إلى الله ورسوله (عليه الصلاة والسلام ) ؟
إن حقيقة الهجرة ليست مجرد الانتقال من بلد إلى آخر ، إن المهاجر كما قال (عليه الصلاة والسلام ) هو من هجر ما نهى الله عنه ورسوله (عليه الصلاة والسلام ) ، هجرةٌ من الذنوب والسيئات ... هجرةٌ من الشهوات والشبهات ... هجرةٌ من مجالس المنكرات .. هجرةٌ من طريق النار إلى طريق الجنة .
نسأل الله تعالى أن يصلح شبابنا ، وأن يهدينا جميعاً ويردنا إليه رداً جميلاً ،