موسم ليالي الصيف المقدسية
تحسين يقين
ما الذي يعنيه مهرجان ثقافي وفني هنا لدى شعب قرى شمال غرب القدس؟
أولئك المحصورون والمحاصرون بجدار الضم والتوسع، والمستوطنات غير الشرعية التي أقيمت جبرا بالقوة على أراضيهم حيث تنمو السنابل والزيتون!
يكاد القمر يكون بدرا..هل صار كذلك؟
هو رمز الاكتمال، لذا نحب الهلال وهو في طريقه للاستدارة، التي تعني نور لليل، "فالنهار نهار وليالي القمر نهار.."، لذا فإن النهار أكثر!
عودة المواسم تثير الذكريات، وهنا على هذه الجبال العالية عاشت ذكريات قرى العنب، وهنا استلقت المعاصر تسعد بأشعة الشمس، لتكون زادا للشتاء..لعل الفرح يدوم..والابتسام..ومواسم الفرح في مهرجانات الصيف الفنية تعيدنا إلى البدايات، فكان الأول، ويكون الخامس، فيزداد المهرجان بهاء ورسوخا..
ليالي الآباء والأجداد في الأعراس والسهرات ظلت جميلة، حتى عكرها من عكرها..لذلك كانت النكبة والنكسة وما بينهما إيذانا بالسطو على حياة الناس العادية، فتغيرت مثلا الحياة الاجتماعية في المضافات، وانكفأ الناس في بيوتهم وفي أماكن اللجوء يتذكرون أيام الصفا..وحتى المقاهي انطفأت قناديلها، كما انطفأ الناس من الحزن..فانشغل الناس بالرثاء، حتى جاء من يحيي الناس مقاومة وأدبا وفنونا وإحياء للتراث والفولكلور..
تجمع الناس في المهرجانات هو نفسه تجمعهم في المواسم والموالد، النبي صالح وموسى وروبين وذي الكفل وشعيب.. أما الفن فحاضر دائما..غلى جانب المواعظ والطعام والشراب واللهو واللعب والبيع والشراء..والحياة..والناس معا..ولا بدّ أن يكون الناس معا..ولا بدّ أن نجمعهم..ونجتمع بهم، فالوجود الجمعي رسالة..وهوية، وتأكيد الحضور..وليس أي حضور، بل الحضور الحيوي الإبداعي..
ولعل مهرجان ليالي الصيف الذي تحتضنه قرى العنب في شمال غرب القدس على أرض بيت عنان، بمثابة موسم من مواسم القدس وفلسطين..قبل ألف عام..ففلسطين والقدس بخاصة مطمع الغزاة من آلاف السنين..
مهرجان القدس في بيت عنان هو أشبه رمزيا وثقافيا بموسم النبي موسى الذي كان "جزءا من تراث مدينة القدس الديني والشعبي، يحتفل به الفلسطينيون منذ ما يقارب التسعة قرون، والذي يعتبر مع مواسم أخرى مثل مواسم النبي صالح قرب رام الله، وموسم المنطار في غزة، وموسم النبي روبين قرب يافا ..
موسم النبي صالح من المواسم التي استحدثت زمن صلاح الدين الأيوبي في نفس الفترة التي تقام فيها أعياد الفصح المسيحي. حيث كانت وفود المناطق الفلسطينية في السابق، تصل إلى القدس قبل أيام من بدء الموسم، وتتجمع في البلدة القديمة وتخرج منها في احتفالات رسمية وشعبية كبيرة ترفع البيارق. برأيي أن إثبات الذات هنا كان ليس أمام المسيحيين الفلسطينيين والذي هم جزء من النسيج الأصيل للمجتمع الفلسطيني، بل كان التجمع بسبب أن قدوم الأوروبيين لإحياء عيد الفصح كان يأخذ بعدا سياسيا مهددا للهوية الثقافية هنا بمبرر ديني..
وبرأيي ان المسألة قد يكون لها تفسير آخر، يتعلق باحتفالات المنطقة ككل بالربيع، والذي أخذ فيما بعدا دينيا لدى أصحاب الديانات الثلاث، حيث تسبق الثقافة والفنون الأديان، وجاءت الأديان ووظفت ما هو سائد من طقوس وفنون.
ثم جاءت العلاقات السياسية والدولية، والاستعمار القديم والحديث..
لقد تم توظيف الهدف نفسه، وهو إثبات الذات الوطنية والعربية في التاريخ الفلسطيني المعاصر، حيث "ارتبط مقام النبي موسى بالزعيم الفلسطيني الحاج أمين الحسيني، حيث كان يقود المواكب التي تأتى من كل مناطق فلسطين، تسبقها المسيرات الشعبية، وفي كل منطقة تمر منها المواكب، يخرج أهلها للانضمام إليها، وبعد أن تمكث الوفود في المقام وحوله فترة الموسم، تعود إلى القدس بموكب حاشد تنشد فيه الأناشيد الوطنية والدينية. ومنذ عام 1919م، قررت قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية استثمار احتفالات النبي موسى للتحريض ضد الانتداب البريطاني الداعم للهجرة الصهيونية. وفي العام التالي 1920، خطب في الوفود القادمة من مختلف المناطق زعماء تلك الفترة أمثال موسى كاظم الحسيني وأمين الحسيني، وكان وصول وفد جبل الخليل إلى القدس، في ذلك العام الشرارة التي أطلقت ما عرف في التاريخ الفلسطيني المعاصرة بثورة العشرين".
هذا هو الوعي قديما وحديثا، وصولا إلى التاريخ المعاصر..المضمون هو نفسه.. والشكل اختلف، لذلك "بعد قدوم السلطة الفلسطينية إلى منطقة أريحا عام 1994، سمحت سلطات الاحتلال للفلسطينيين باستخدام ممر ضيق لموقع المقام. ورغم الوجود العسكري الإسرائيلي المكثف في المناطق القريبة والمعلنة مناطق عسكرية، تداعت مؤسسات أهلية ورسمية لإحياء الموسم كما كان يحدث منذ تحرير القدس على يد صلاح الدين الأيوبي قبل 900 عام، ولكنها بقيت احتفالات متواضعة، لم تأخذ الطابع الوطني الجماهيري"...لاختلاف الزمان..
كان إحياء الموسم إيذانا بالتفكير التقليدي بتوظيف الموسم سياسيا ووطنيا..
وهو هنا يعني الكثير لقرويي القدس خلف الجدار، ومن صودر ترابهم لأجل الاستيطان المستمرّ بلا خجل أو حياء!
المضمون هو المضمون، لذلك كان لا بدّ من الانسجام مع العصر شكلا..فكانت المهرجانات حالات وطنية، وإنسانية وثقافية.. ومن هذا المنطلق التاريخي والاجتماعي والاقتصادي والوطني ينبغي أن ننظر إلى المهرجانات..
مهرجانات مشمش وخس وشعير وتين ..
يقولون ما المهرجان؟ فأقول هو قرويو العنب والزيتون والخوخ والرمان والتين والصبر..هم الرائعون والرائعات، أما أجمل ما فيه فهو ابتساماتهم التي تضيء جبال القدس الغربية.. فالفرح هو ما ننشده..ومن حقنا جميعا أن نفرح:
نفرح لأننا هنا باقون..ونفرح لأننا هنا سنظل باقين..
في المهرجان يستمر الفرح، للباقين هنا..لعلهم يتزودون بمتعة السمع والبصر وهم في طريقهم الصعب للبقاء في ظل عتمة الضمائر.
نسعد بالألعاب والفنون في الافتتاح، ثم يتحفنا الفنان عمار حسن بأغانيه الجميلة عن القدس والحب، ثم تحضر الناصرة بفرقة الرقص من يافتها، وتحضر القدس بفرقة شموع القدس، وتحضر فرقة "بالعكس" بشكلها الحيوي الجميل الجذاب القادمة لتنشد عن الوطن..لتشد على أيدينا..وصمود بفلكلورها..وتتالق الشاعرة الشابة نداء يونس في القدس والقلب والفكر..
تجربة محلية انطلق بها الصديق حسام الشيخ من بيت عنان، فكانت تجربة مقدسية ووطنية، ولم تمض سنة واحدة حتى ترسخت ليالي الصيف المقدسية على خارطة المهرجانات..
وباعتبار أن الليالي هي لشمال غرب القدس والقدس بعامة، ولخصوصية المكان في بيت عنان، فلعل المجالس المحلية، ووزارة القدس والمحافظة، وأهالي بيت عنان، يعملون جميعا شراكة، بحيث يتم السعي لتمويل جزء من الفعاليات، باعتبار أن على المجالس والمؤسسات تقديم خدمات ثقافية وترفيهية للمجتمع، وفي هذه المناسبة فإننا نطمح لتفعيل قانون تمويل التربية والثقافة من خلال اقتطاع نسبة 1% من ميزانيات المجالس..لأننا بهذه النسبة نزرع الفرح في قلوب شعبنا، فهل أروع من تمويل الفرح..فباعتبار المهرجان إنما هو للقدس، فعلى القرى القريبة والأبعد تقديم يد العون والمساندة..وما ينطبق على ليالي الصيف ينطبق على المهرجانات الأخرى، حتى لا نظل مشغولين كل عام بالتمويل..ولعلنا إذ نشكر كل المؤسسات الداعمة، لنفرح بالدعم الفردي (تمثل في تبرع مغترب عناني) الذي يعني لنا الكثير، وعلى رأس ذلك: الإيمان بدور الثقافة والفنون في ترسيخ الهوية، وإسعاد الناس..
كا إن تأسيس لجنة أصدقاء لهذا المهرجان ولغيره سيسهم بدعمه..ماليا وثقافيا..
المهرجان للثقافة والفن، يشدّ إسماعيل التلاوي رئيس اللجنة الوطنية الفلسطينية للتربية والثقافة والعلوم-اليونسكو من عزيمة أهل جبال القدس، للتأكيد على الهوية..ويشاركنا د. سلام فياض رئيس الوزراء السابق، والذي ارتبط مع الأهالي هنا لعدة سنوات يشاركهم الهموم والاحتفالات..فبادلوه وفاء بوفاء..
أما الأطفال أطفال الفرح فزرع لمستقبل مشرق هم.. فلهم الفرح والسرور ولهم القدس أكبر فرح!
هدفنا الحب..والقدس حرة.. عاصمة للفرح تكون..
صار القمر بدرا، وهبت نسائم عليلة على الجبال، لعلها أتت بعبير القدس..ولعلها تحمل حب الناس هنا لمدينتهم وشوقهم الذي طال بسبب الحصار والجدار..
ليالي الصيف المقدسية..موسم للفرح..والوجود معا هنا..فنحن شعب كباقي الشعوب..شعب حيّ يحب الحياة.."ما استطاع إليها سبيلا"!
هنا يلتقي ما هو عادي من حياة البشر، وما هو غير عادي حيث يسطو الاستعمار على أرض البشر وأحلامهم..لكنهم يقاومون بالحب والفنون..وإرادة الحياة.
Ytahseen2001@yahoo.com