[size=18]
مدينة القدس.....ما اشبه الليلة بالبارحة
إن المتأمل في أوضاع مدينة القدس منذ نشأتها يلاحظ شيئاً تكاد هذه المدينة أن تنفرد فيه دون سائر الأماكن في هذا العالم، فناهيك عن قدسيتها وأنها مدينة الأنبياء ومهبط وحي السماء ومدينة الإسراء والمعراج لخاتم الأنبياء والمرسلين، فإنه لم يعرف في تاريخ المدن ان مدينة قصدها الغزاة والفاتحون بقدر ما قصدوا هذه المدينة وهددوها، وحاصروها، وذاقت من الويلات ما ذاقت عبر تاريخها الطويل.
وكذلك من الملفت لنظر أيّ متأمل أو باحث في تاريخ هذه المدينة أن جميع الأحداث التي تدور في هذه المنطقة وأقصد البلاد المحيطة بها، لو دققنا بها النظر لتبيّن أنها تشكل سبباً لها بشكل مباشر أو غير مباشر، وهذا ما يجعل الأسئلة تتداعى حول وضعها وأهميتها بشكل غير محدود.
ولكن الصراع الأبرز في تاريخ هذه المدينة هو ذلك الإدعاء بملكيتها من قبل قوم لا يمتّون إليها بصلة من قريب أو بعيد وإنما مرّوا بتاريخها مروراً عابراً مثل ما مرّ غيرهم من الغزاة، ولم يتركوا أي بصمات في تاريخ هذه المدينة، وإنما أهمية هذه المدينة وقدسيتها وما ترمز إليه، كل ذلك أرادت الحركة الصهيونية أن تستغلّه وتوظّفه لأهدافها الإستعمارية، ولن تجد مكاناً آخر في الدنيا يلقى هوىً في النفوس مثلما تلقى هذه المدينة في نفوس من تريد الحركة الصهيونية استغلالهم ونهب أموالهم في سبيل تحقيق أهدافها.
حيث توهم الحركة الصهيونية أناساً لا يسمعون بهذه المدينة ويتفرقون في شتى بقاع الأرض أن لهم إرثاً في هذا المكان وأن لهم هيكلاً
مهدوماً لا بد من إعادة بنائه وبهذه الذرائع التي لا تمتّ إلى الحق والحقيقة بشيء يجمعون الأموال ويشترون الذمم ويكسبون التعاطف والتأييد من الحكومات والدول، ويرتكبون أبشع الجرائم في حق أهل هذه المدينة وأهل فلسطين جميعهم بل في حق أرضهم وشجرهم، كل ذلك لتحقيق هدف الصهيونية الذي يرمي إلى جمع ما يستطيعون من اليهود من شتى بقاع الأرض وتوطينهم في فلسطين على حساب أهل فلسطين وعلى حساب أرضهم وبناء الهيكل وإقامة دولة اليهود انتظاراً لقدوم ملك اليهود.
بهذا التفكير المقيت وبهذه العنصرية، وبهذا العداء والحقد الذي ينصب على رؤوس كل البشر باستثناء اليهود، بفكرة "الغيتو"(وفكرة "الغوييم" يبني الصهاينة كيانهم العنصري ويحشدون له التأييد ولا يتركون فرصة أو موجة إلاّ ويركبونها ويسخّرونها لأهدافهم ومصالحهم مثلما هو حادث في هذه الأيام حيث أصبح اليهود خير من يحارب الإرهاب، ويصبح شارون رجل سلام، كل ذلك حسب الوصفة الأمريكية التي أطلقتها الولايات المتحدة الأمريكية لتختبئ خلفها وتصل إلى ما تريد هي وجميع القوى الإستعمارية قديمها وحديثها.
فكيان مثل الكيان الصهيوني مثل النبت الشيطاني أوجدته ظروف ومصالح دولية ولم يأخذ شكل الوجود والنمو الطبيعي مثل كل الكيانات السياسية في التاريخ البشري، كيان مثل هذا الكيان يكون بالضرورة غير قادر على التعايش مع غيره، لأنه غير مؤهل أصلاً لمثل هذا التعاون والعيش بسلام لأن طبيعة وجوده العنصرية لا تحقق إلا مصلحة ذاته.
بالإضافة إلى ذلك فإن الصهاينة وعبر تاريخهم وعند وجودهم بشكل تجمعات سكانية ذاقت المجتمعات البشرية من عنصريتهم وعزلتهم وعدم تعاونهم الأمرّين فكيف بهم إذا أصبحوا كياناً سياسياً يمتلكون القوة النووية ووجودهم محكوم بالمصلحة الاستعمارية العالمية؟!
فأي تعاون وأي سلام وأية حياة ينشد المتوهمون مع هؤلاء؟ فالتركيبة العنصرية للعقلية الصهيونية لا تقبل الآخر ولا تؤمن إلا بحيّز يتسع لهم فقط دون غيرهم.
فهم والحالة هذه لا ينظرون نظرة القداسة أو المحبة لمدينة القدس وإنما يستغلون وضع هذه المدينة وما يحمله من معانٍ خالدة أبشع استغلال في سبيل تحقيق أهدافهم التي أصبحت لا تخفى على أحد.
وما أشبه الليلة بالبارحة فعقلية الاستعمار واحدة وإن اختلف وجهه، حيث يغطي أهدافه الخبيثة بشعارات برّاقة يريد أن يبدو من خلال هذه الشعارات أنه يدافع عن قيم الحق والعدل فلو تأملنا في الشعارات التي رفعها الصليبيون الذين جاءوا إلى هذه البلاد، حيث رفعوا شعار حماية الحجاج المسيحيين وأنهم ما أتوا إلى هذه البلاد إلا لحمايتهم وصيانة المقدسات المسيحية من عبث المسلمين، ونراهم بعد ذلك يؤسسون الممالك والقلاع ويجهزون الجيوش ويستولون على مقدرات البلاد وينهبون خيراتها ويشكل وجودهم السياسي والعسكري في هذه البلاد حماية حقيقية لطرق التجارة وتأمين الصادرات الأوروبية إلى بلاد الشرق فكان المعلن أن هذه الحملات الصليبية هدفها حماية الحجاج وصون المقدسات المسيحية وفي الحقيقة هي عبارة عن حملات تجارية مسلحة عانت منها هذه البلاد ما يقارب قرناً من الزمان، مستغلّة ضعف أهل البلاد وتفرقهم فأحكمت قبضتها على بلادهم، وكم عقدوا من الاتفاقيات والمعاهدات التي لم تكن إلا تكتيكات اتبعوها لإحكام سيطرتهم على البلاد، ولم يحترموها أو يراعوها إلا بقدر ما تحقق لهم من مصالح ومكاسب، ولم تجد هذه الاتفاقيات وعلى مدار قرن من الزمان في جعل هؤلاء الصليبيون يفكرون لحظة واحدة في إنهاء احتلالهم أو جلب الخير والمنفعة للبلاد وأهلها بل على العكس من ذلك ما كانت تزيدهم إلا تمسكاً في إقطاعياتهم ونهب ما يستطيعون نهبه من خيرات هذه البلاد.
ولم ينجح في إجلائهم إلا أسلوب مقاومتهم وكسر شوكتهم بالاتحاد والتكاتف ووحدة الصفّ، وكم هي الحالة التي يعاني منها أهل البلاد التي يحتلها الصهاينة اليوم شبيهة بالحالة التي عانى منها أجدادهم عندما احتل الصليبيون بلادهم بالأمس، وكم هي الحجج والذرائع التي يسوقها الصهاينة في سبيل تثبيت كيانهم المزيف والدخيل على هذه الأرض شبيهة بالأكاذيب التي ساقها الصليبيون في الماضي في سبيل فرض وجودهم وكيانهم فوق هذه الأرض.
وكم يكون حريّ بنا هذه الأيام أن نمعن النظر وندقق فيما يحيط بنا لنكتشف وبوضوح تام أن صورة الماضي تشبه صورة الواقع الحالي، ومن هنا لا بد أن ننتهي إلى نتيجة مفادها أن الاحتلال لا ينتهي إلا بمقاومته وإخراجه دون مهادنة أو تنازل مهما استغرق ذلك من وقت، وغير ذلك لا يكون إلاّ مضيعة للوقت أو تعامي عن الحقيقة التي تتبدى أمام الجميع بكل وضوح.