كلام في التوبة
قال صاحب المنازل : وحقائق التوبة ثلاثة أشياء : تعظيم الجناية ، واتهام التوبة ، وطلب أعذار الخليقة .
يريد بالحقائق : ما يتحقق به الشيء ، وتتبين به صحته وثبوته ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لحارثة إن لكل حق حقيقة ، فما حقيقة إيمانك ؟ .
[ ص: 203 ] فأما تعظيم الجناية فإنه إذا استهان بها لم يندم عليها ، وعلى قدر تعظيمها يكون ندمه على ارتكابها ، فإن من استهان بإضاعة فلس - مثلا - لم يندم على إضاعته ، فإذا علم أنه دينار اشتد ندمه ، وعظمت إضاعته عنده .
وتعظيم الجناية يصدر عن ثلاثة أشياء : تعظيم الأمر ، وتعظيم الآمر ، والتصديق بالجزاء .
وأما اتهام التوبة فلأنها حق عليه ، لا يتيقن أنه أدى هذا الحق على الوجه المطلوب منه ، الذي ينبغي له أن يؤديه عليه ، فيخاف أنه ما وفاها حقها ، وأنها لم تقبل منه ، وأنه لم يبذل جهده في صحتها ، وأنها توبة علة وهو لا يشعر بها ، كتوبة أرباب الحوائج والإفلاس ، والمحافظين على حاجاتهم ومنازلهم بين الناس ، أو أنه تاب محافظة على حاله ، فتاب للحال لا خوفا من ذي الجلال ، أو أنه تاب طلبا للراحة من الكد في تحصيل الذنب ، أو اتقاء ما يخافه على عرضه وماله ومنصبه ، أو لضعف داعي المعصية في قلبه ، وخمود نار شهوته ، أو لمنافاة المعصية لما يطلبه من العلم والرزق ، ونحو ذلك من العلل التي تقدح في كون التوبة خوفا من الله ، وتعظيما له ولحرماته ، وإجلالا له ، وخشية من سقوط المنزلة عنده ، وعن البعد والطرد عنه ، والحجاب عن رؤية وجهه في الدار الآخرة ، فهذه التوبة لون ، وتوبة أصحاب العلل لون .
ومن اتهام التوبة أيضا : ضعف العزيمة ، والتفات القلب إلى الذنب الفينة بعد الفينة ، وتذكر حلاوة مواقعته ، فربما تنفس ، وربما هاج هائجه .
ومن اتهام التوبة : طمأنينته ووثوقه من نفسه بأنه قد تاب ، حتى كأنه قد أعطي منشورا بالأمان ، فهذا من علامات التهمة .
ومن علاماتها : جمود العين ، واستمرار الغفلة ، وأن لا يستحدث بعد التوبة أعمالا صالحة لم تكن له قبل الخطيئة