لم تقتصر الأنظمة في الحضارة الإسلامية على معالجة شئون المسلمين وشئون غير المسلمين في الدولة الإسلامية فقط، وإنما اهتمَّت -أيضًا- بتنظيم عَلاقة المسلمين بغيرهم من الشعوب والدول الأخرى، وقد كان لها في ذلك أسس ومبادئ لما يجب أن تكون عليه هذه العَلاقات، وذلك حالَ السِّلْـمِ والحرب على السواء، تلك الحالات التي تَتَجَلَّى فيها عظمة الحضارة الإسلامية، وتعلو إنسانيتها خَفَّاقة.
الإسلام دين السلام
الإسلام دين السلامالسلام هو حقًّا الأصل في الإسلام، وقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين به المصدِّقين برسوله قائلاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْـمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 208]. والسلم هنا هو الإسلام[1]، وقد عبَّر عن الإسلام بالسلم لأنه سلام للإنسان؛ سلامٌ له في نفسه، وفي بيته، وفي مجتمعه، ومع من حوله؛ فهو دين السلام.
ولا غَرْوَ حين نجد أن كلمة الإسلام مُشْتَقَّة من (السلم)، وأن السلام من أَبْرَزِ المبادئ الإسلامية، إن لم يكن أبرزها على الإطلاق، بل من الممكن أن يرقى ليكون مُرَادِفًا لاسم الإسلام نفسه؛ باعتبار أصل المادَّة اللغوية[2].
فالسلم في الإسلام هو الحالة الأصلية التي تُهَيِّئُ للتعاون والتعارف وإشاعة الخير بين الناس عامَّة، وإذا احتفظ غير المسلمين بحالة السلم، فهم والمسلمون في نظر الإسلام إخوان في الإنسانية[3]، فالأمان ثابتٌ بين المسلمين وغيرهم، لا ببذل أو عقد، وإنما هو ثابت على أساس أن الأصل السلم، ولم يطرأ ما يهدم هذا الأساس من عدوان على المسلمين[4].
علاقة المسلمين بالشعوب غير المسلمة
ومن الواجب على المسلمين أن يُقيموا عَلاقات المودَّة والمحبَّة مع غيرهم من أتباع الديانات الأخرى والشعوب غير المسلمة؛ نزولاً عند هذه الأُخُوَّة الإنسانية، وانطلاقًا من الآية الكريمة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]؛ فتَعَدُّد هذه الشعوب ليس للخصومة والهدم؛ وإنما هو مَدْعَاة للتعارف والتوادِّ والتحابِّ[5].
ويشهد لهذا الاتجاه العديدُ من الآيات القرآنية التي أَمَرَتْ بالسّلْـم مع غير المسلمين إنْ أَبْدَوُا الاستعداد والميل للصُّلْـحِ والسلام؛ فيقول الله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْـمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} [الأنفال: 61]، وهذه الآية الكريمة تُبَرْهِنُ بشكل قاطع على حُبِّ المسلمين وإيثارهم لجانب السّلْـم على الحرب، فمتى مال الأعداء إلى السّلْـمِ رَضِيَ المسلمون به، ما لم يكن من وراء هذا الأمر ضياعُ حقوقٍ للمسلمين أو سلبٍ لإرادتهم.
قال السُّدِّي[6] وابن زيد[7]: معنى الآية: إن دَعَوْكَ إلى الصلح فأجبهم[8]. والآية التالية لهذه الآية تُؤَكِّد حرص الإسلام على تحقيق السلام، حتى لو أظهر الأعداء السلم وأبطنوا الخيانة، يقول تعالى يخاطب رسوله الكريم: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْـمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62]، أي أن الله يتولَّى كفايتك وحياطتك[9].
وقد كان الرسول يعتبر السلام من الأمور التي على المسلم أن يحرص عليها ويسأل الله أن يرزقه إيَّاها، فكان يقول في دعائه: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ..."[10]. بل خطب ذات يوم في الصحابة قائلاً: "لا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا"[11]. كما كان يكره كلمة حرب، فقال: "أَحَبُّ الأَسْمَاءِ إِلَى اللهِ: عَبْدُ اللهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَصْدَقُهَا: حَارِثٌ وَهَمَّامٌ، وَأَقْبَحُهَا: حَرْبٌ وَمُرَّةُ"[12].