جُبلت النفس البشرية على حب التميز والظهور بشكل متجدد دائماً وفي شتى المجالات ، وذلك يجعلها في تنافس دائم مع ما حولها من أنفس بشرية أخرى ، ساعية في ذلك لإثبات مكانتها والوصول بها للقمة وقبل الجميع .
إذا أردنا أن ننظر لتلك الكلمات السابقة بمنظور إسلامي ، سنجد أن الشريعة الإسلامية جعلت باب التنافس مفتوح أمام المسلم من خلال قوله تعالى : {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } سورة المطففين :26.
قال ابن حجر رحمه الله في معنى هذه الآية : المنافسة هي الرغبة في الشئ ومحبة الإنفراد به والمغالبة عليه ، وأصلها من الشئ النفيس في نوعه .
ولكن الشريعة الإسلامية لم تدع ذلك الباب مفتوح على مصراعيه ، وإنما فتحته بضوابط تحكمه وتجعله يسير بشكل صحيح نحو الهدف المنشود ، فقد بيّنت من خلال نصوصها الشرعية المستمدة من الكتاب والسنة أن هناك تنافس محمود يصل بالمسلم إلى أعالي الجنان ، وآخر مذموم يصل به إلى قاع النار والعياذ بالله .
وإن أردنا التعرف على كيفية التنافس المحمود ، فإن علينا أن نتحرّى في ذلك رضا الرحمن جل في علاه ، و لنا في رسولنا الكريم الأسوة الحسنة صلوات ربي عليه وسلامه ، فقد أتاه أصحابه يوماً ما يشتكون وقالوا : يا رسول الله ذهب أهل الثور بالأجور، يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم. فقال لهم :أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون ؟ إن بكل تسبيحة صدقة ،وكل تكبيرة صدقة، و كل تحميدة صدقة، و كل تهليلة صدقة ، وأمر بمعروف صدقة ، ونهي عن منكر صدقة ، وفي بضع أحدكم صدقة ، قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال :أريتم لو وضعها في حرام أكان ورز؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال، كان له أجر. أو كما قال عليه الصلاة والسلام .. رواه مسلم..
فقد أرادوا أن يكون لهم أجر مثل أهل الأموال الكثيرة الذين يتنافسون في الصدقة ، فأرشدهم رسولنا الكريم صلوات ربي عليه وسلامه إلى ما هو أفضل وأكثر أجراً ، ألا وهو التنافس في الصلاة والحمد والتسبيح وغير ذلك مما اتضح لنا من الحديث السابق .
وهذا هو التنافس الشريف الذي يجعل النفس البشرية دائمة البحث عن الأفضل فيما يخص أمور الدين والآخرة ، في جو يسوده الإيمان الحق وسلامة الصدر و الحب والشوق لما عند الله تعالى ، فهي تبحث عن الأفضل لها في العلم الموصل لله تعالى ، و فعل الخيرات من صلاة و ذكر وإنفاق وقيام ليل وحضور للمسجد في الصف الأول – بالنسبة للرجال - ، و عطف على صغير ، واحترام كبير وغير ذلك من الطاعات التي لا حصر لها ،
حتى أن شريعتنا الإسلامية السمحة لم تقف أمام الباحث عن الأفضل في أمور الدنيا ، فقد قال سبحانه وتعالى {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا } سورة القصص : 77 .
فالباب مفتوح لمن أراد التنافس مع أقرانه للحصول على الأفضل في المال والمسكن والمركب والملبس ، ولكنها كلها مقيّدة بإبعادها عن الحرام من حسد وبذخ و تبذير .
وهذا ما نسميه بالتنافس المذموم الذي يغطيه هالة سوداء من المسابقة على ما سيكون هباءً منثوراً يوم لا يوم بعده ، فلا هو الذي تمتع بما وصل إليه ، ولا هو الذي وصل إلى ما القلب إليها دائم الإشتياق ، ألا وهي أعالي الجنان.
وهذا التنافس قد حذّر منه بأبي هو وأمي وكان يخشى على أمته منه فقد قال : [ فوالله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها ، فتهلككم كما أهلكتهم ] أو كما قال صلوات ربي عليه وسلامه ..رواه البخاري ومسلم ..
كذلك نجد ذلك المُنافس على (لا شئ ) دائم التفكير ، مشغول البال بما عند الغير ، محبط دائم ، يريد ما لم يكتبه له ربه مما عند غيره من البشر ، وكل ذلك لا يؤثر إلا عليه وحده .
فلو اتسم بسمات المُنافس الذي يبتغي في كل ما يتنافس من أجله وجهه سبحانه وحده لا شريك له ، فلن يجد إلاّ كل خير ، وسيعلم أن ما كُتب له منذ الأزل سيأخذه لا محاله ، ولو وقف أمامه جميع من على هذه الأرض ، فليس ربنا بظلاّم للعبيد أبدا .
في الختام .. أوصي نفسي و قارئ كلماتي بأن تُبقي الله جل جلاله أمام ناظريك في كل أمر تريد البدء فيه ..
لا تأخذك في الله لومة لائم ، وابحث عن الأفضل دائماً دون إلحاق الضرر بأي من المخلوقات ، وحاول أن تنشر الإبتسامة من حولك بأفعالك التي تسير وفق نهج ربّاني متين ، واعلم أن خير الناس أنفعهم للناس ولكن بقدر استطاعتك ولا تنس أن تتميز دائماً وترقى للقمة التي تريد مخلص النية في القول والعمل ..
وصلي الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين ..