بين المفقود و الموجود حكاية طويلة بها من الأسرار و العبر و الحكم الكثيرة
في المقولة الشهيرة .... لا تفكر في المفقود حتى لا تفقد الموجود
مقولة من ذهب .... لو تأملناها جيدا لاستخرجنا من بين أحرفها حكمة عظيمة و لو طبقنا محتواها لكنا من السعدآء و من المرتاحين ،
الفرصة النائمة ... مصطلح عميق في معناه ، يلخص مغزى المثل السابق ، نحن نمنع النظر في المفقود أكثر منه في الموجود حتى نفقده و أحيانا تعمى أبصارنا عن رؤية الموجود و لا ندرك قيمته في حياتنا . بل نمارس عليه طقوس التجاهل و التناسي
من الكلام الجميل الذي يغذي الروح و العقل ليس فقط حكم ذوي العقول بل كلام رب العباد عز و جل فهو هدى و نور و شفاء لما في الصدور وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ
لو رجعنا الى المثل السابق .... لا تفكر في المفقود حتى لا تفقد الموجود .... من هنا راودتني فكرة ابدآآعية ، حاولت المزج بين مغزيان مهمان و حكمتان عميقتان و لو أنه شتّان بين حكمة الله تعالى و حكمة الحكماء من البشر ، الا أن مصبّهما في نهر واحد و منه نسقي و نغذي عقولنا ....
في الكلام عن المفقود و الموجود و عن الحكمة المستوحاة منهما ، يقول تعالى في سورة الأعراف : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
الله عز و جل لا يكلف نفسا الا وسعها .... الله رؤوف بنا و لا يكلفنا الا وسعنا .... لو تأملنا كلمة "وسعها " و أصلها من كلمة الوسع و هو اليسر و كل ما كان يسيرا
و هو المتاح ، المتاح أمامنا ، المتاح لدينا ، ما أتيح لنا من معطيات و من مدخلات [ روحية ، جسدية ، مادية ... ] و في حديثي أود التركيز أكثر عن المتاحات الروحية و المعنوية
فنحن و مع كثرة متاحاتنا و معطياتنا ، نجد أنفسنا في حالة تذمر مستمرة ... عجبا لهذا الانسان كم يغفل عن متاحاته و يتجاهلها فالأيام تمدنا بكنوز كثيرة نغفل عنها أحيانا و ندركها أحيانا أخرى ... رغم وجودها حولنا و أمامنا لكننا نغفل عنها لانشغالنا بأشياء أقل أهمية و أكثر ضجرا ..... و أكبر متاحاتنا الروحية و أعظمها هي النعم التي حبانا الله بها ، و ان تعدوا نعمة الله لا تحصوها ، نعمة العقل أعظم نعمة ميزنا الله تعالى بها عن سائر المخلوقات ...نعمة الاسلام و هي نعمة الانسان المميز [ كما أسميها ] لأننا و لله الحمد ولدنا مسلمين و لم نشرك قط بالله تعالى و هي النعمة الوحيدة التي لا تزول [ الا بارتداد الانسان من تلقاء نفسه] بل و تنفعنا حتى في قبورنا
المتاح هوالشيء المتوفر عندنا ، الموجود ، الميسور ، الجاهز ، المتناول ، نستطيع لمسه بأيدينا ، نحسه بقلوبنا ، ندركه بعقولنا
لكننا غالبا ما نواجه إشكالا في استخدام هذا المتاح ... وأحيانا حتى في إيجاده ، إشكالا أيضا في تجاهله و إشكالية التهاون في الاستفادة منه فالبرغم من وجود الموجود و المتاح الا أننا لا نراه ، ليس لأنه مخفي ن بل لأننا لا نبصره ... صدق تعالى في قوله ... أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور
فعلا كلام من لدن حكيم خبير ... سبحان الله
تأملوا معي هذه الآية ... فانها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور ... فعلا نحن نبصر ، نرى الأشياء على حقيقتها ، نراها من حولنا رأي العين، نرى كل شيء بحاسة البصر التي هي نعمة عظيمة [متاح عظيم] لكن هل نستطيع رؤية قلوبنا ؟ هل ممكن أن نرى أفعالنا ؟نعم نراها و نستطيع ذلك لكن ليس بعين الوجه بل بعين القلب ... التي هي و للأسف من المفقودات لدى البعض منا
و مما لا شك فيه أن متاحاتنا كثيرة و جمّه .. لكن الفطن منا من أحسن توظيفها في ذاته أولا ثم في مجتمعه
بيد أن العقل البشري و بطبيعته ان لم نروضه على العمل مال الى الكسل.... و يمارس الرؤية النصفية في تحليل المواقف ، فهو يرى ما يود رؤيته و يحلل ما أتحنا له من معطيات و لا يلجأ لاستخدام وسائل أخرى نساعده فيها على التحليل بطريقة مثالية حتى يتوصل الى الرؤية الكلية دعونا لا نقل كلية و لكن ... أكثر من نصفية و بالمثال تتضح الأمور
الحكم على الآخرين ، فعقلنا ينظر الى هذه الزاوية [ الحكم على الآخرين ] من حيث المعطيات المتاحة لديه فقط ... آية و كوثر صديقتان تواعدتا على موعد لشرب الشاي و الحديث الممتع ، حضرت آية على الموعد تماما و انتظرت قدوم كوثر ... طال انتظار آية ، اتصلت بكوثر.... لم تجب ... مرة و اثنان و ثلاثة .. و طفح الكيل و امتلأ الكأس ... كأس الغضب بل و فاض ... ذهبت و انسحبت من الموعد و هي في حالة غضب شديدة ، تأكل في هذه اللحظات ثاني أوكسيد الكربون الخام .... أول ما تبادر لعقل آية ... ان كوثر صديقة سيئة ، لم تأتي للموعد ، ليست جديرة بصحبتي ، يا لها من
و هنا يتفنن العقل في السباحة في أنهار الأفكار الشيطانية و الأنا الغاضبة... في الحقيقة هو مبرمج على هذا و نحن من نسمح له بالتفكير هكذا لأن أفكارنا هي من غذّته.... فلنحرص على أفكارنا ... فهي أحيانا غيوم ملائكية و أحيانا حمم شيطانية
فكرة .... لما لا نستغل 10 دقائق من 24 ساعة [ فقط 10 دقائق] .... نتعرف فيها على متاحاتنا الروحية ، الجسدية ، المادية .... نمسك ورقة و قلم و نبدأ بتدوين المفقودات و الموجودات ... لن أكمل ... تعرفّن على النتيجة من خلال ممارسة هذا التمرين البسيط ....
لا نتعب أنفسنا بالتفكير في المفقود ... فالمفقود غيبي و الغيب لا يعلمه الا الله ... و لنحسن الظن بالله حتى تتحسن مفقوداتنا و نسعد بموجوداتنا
لا نسلط ضوء واحد على الموجود و كل الأضوااء على المفقود .... نتعب و لا نستمتع بالموجود...
لا نكن كالمتشائم الذي يرى النصف الفارغ من كأسه و لا يرى النصف المملوء ...
بهذا نصل ان شاء الله الى خط الوصول المرجو من رخاء و طمئنينة و راحة ... و نصل الى الرؤية الأكثر من نصفية و لنوقظ الفرص النآئم