وضع أوروشالم من زمن الخروج من مصر حتى قيام مملكة داود وسليمان عليهما السلام
تدخل أورشليم في عصر مملكة داود وسليمان المتحدة وفي عصر المملكة
المنقسمة في فترة من أشد فترات تاريخ أورشليم اضطرابا من الناحية السياسية كما أن
صورتها الدينية تتسم بالازدواجية التي تتراوح بين كونها المدينة المقدسة والمدينة
النجسة الزانية كما تصورها مؤرخو العهد القديم في فترة الانقسام.
فحتى نهاية عصر القضاة في القرن التاسع قبل الميلاد وهو العصر
السابق على عصر شاؤول ومملكة داود وسليمان من بعده مباشرة، وكانت مدينة أوروساليم
مدينة عربية كنعانية خالصة تحمل الاسمين معا أورساليم ويبوس، ويؤكد سفر القضاة على
حقيقتين أساسيتين: الأولى أنه لم يكن هناك ملك في بني إسرائيل، وفي تلك الأيام حين
لم يكن ملك في إسرائيل " .. " فسار من هناك بنو إسرائيل في ذلك الوقت كل واحد إلى
سبطه وعشيرته وخرجوا من هناك كل واحد إلى ملكه، في تلك الأيام لم يكن ملك في
إسرائيل، كل واحد عمل ما حسن في عينيه".
أما الحقيقة الثانية فهي أن حيث يقول سفر القضاة: "وفي تلك الأيام
لم يكن ملك في إسرائيل كان رجل لاوي متعربا في عقاب جبل ارايم... فلم يرد الرجل أن
يبيت بل قام وذهب وجاء إلى مقابل يبوس، وهي أورشليم... وفيما هم عند يبوس والنهار
قد انحدر جدا قال الغلام لسيده تعال نميل إلى مدينة اليبوسيين هذه ونبيت فيها، فقال
له سيده، لا نميل على مدينة غريبة حيث ليس أحد من بني إسرائيل هنا نعبر إلى جعبة..
ونبيت جعبة أو في الرامة".
وفي نهاية عصر القضاة يدخل الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين في
مرحلته الدامية التي ستؤدي فيما بعد إلى نهاية عصر القضاة، ودخول الإسرائيليين في
عصر الملكية الموحدة بعد توحيد قبائل بني إسرائيل والذي حكم خلاله ثلاثة ملوك فقط
هم شاؤول وداود وسليمان لكي تنقسم المملكة بعد موت سليمان إلى مملكتين إحداهما
إسرائيل في شمال فلسطين والثانية يهوذا في جنوب فلسطين، وتشير العديد من نصوص سفر
القضاة التي تسلط الفلسطينيين وسيادتهم على الإسرائيليين، ويعود هذا الصراع الذي
نشأ بين الكنعانيين وغيرهم من القبائل والجماعات العربية الساكنة في فلسطين وبين
الإسرائيليين القادمين مع يشوع من شبة جزيرة سيناء بعد الخروج من مصر إلى أن هذه
الجماعات الإسرائيلية بدأت في التسلل إلى أرض كنعان والدخول إليها بوسائل عسكرية
أحيانا وبوسائل سليمة أحيانا أخرى، وقد بدأت هذه الجماعة في الدخول إلى أرض كنعان
بقيادة يشوع بعد موت موسى عليه السلام والذي مات قبل أن يدخل أرض كنعان حسب رواية
سفر التثنية: "وصعد موسى من عربات موآب إلى جبل بنو إلى رأس الفسجة الذي قبالة
أريحا فأراه الرب جميع الأرض من جلعاد إلى دان...، وقال الرب هذه هي الأرض التي
أقسمت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب قائلا لنسلك أعطيها قد رأيتك إياها بعينك ولكنك إلى
هناك لا تعبر، فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسب قول الرب... ولم يعرف إنسان
قبره إلى هذا اليوم" ويجب أن نذكرها أن سفر التثنية من الكتاب اليهودية المتأخرة
الموضوعة خلال القرن السادس قبل الميلاد أي بعد موت موسى عليه السلام بسبعة قرون
كاملة، وحول هذا العهد المعطى لموسى عليه السلام والمجدد للعهود السابقة المعطاة
لإبراهيم وإسحاق ويعقوب يدور اللاهوت الإسرائيلي المتأخر الذي فهم العهد فهما بحتا
في أنه يعني الأرض لا العهد الديني الأخلاقي الذي نصت عليه رسالات أنبياء بني
إسرائيل والذي طالما نقضه بنو إسرائيل فاستحقوا العقاب المتكرر على ذلك، ويعتبر
يشوع وفقا لهذا الفهم اللاهوتي الإسرائيلي هو المنفذ الحقيقي للوعد المعطى لموسى
عليه السلام، وكان بعد موت موسى عيد الرب أن الرب كلم يشوع بن نون خادم موسى قائلا:
"موسآ عبدي قد مات، فالآن قم اعبر هذا الأردن أنت وكل هذا الشعب إلى الأرض التي أنا
معطيها لهم أي لبني إسرائيل، كل موضع تدوب بطون أقدامكم لكم أعطيته كما كلمت موسى،
من البرية ولبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات جميع أرض الجشيين، وإلى البحر
الكبير نحو مغرب الشمس يكون تخمكم". وتكملة لهذه الهوية الدينية السياسية المتأخرة
يبدأ الصراع مع سكان الأرض الأصليين: "فقال يشوع لبني إسرائيل تقدموا إلى هنا
وطرد... وطرد يطرد من أمامكم الكنعانيين والحيثيين والحوريين والفريزيين
والجرجاشييين والأموريين واليبوسيين". وعبور يشوع بالإسرائيليين نهر الأردن يصور
على أنه عبور ديني مؤكد بمعجزة إلهية مثلما عبر الإسرائيليون مع موسى نهر سوف: "على
اليابسة عبر إسرائيل هذا الأردن، لأن الرب إلهكم قد يبس مياه الأردن من أمامكم حتى
عبرته كما فعل الرب إلهكم ببحر سوف الذي يبسه من أمامنا حتى عبرنا، لكي تعلم جميع
شعوب الأردن يد الرب أنها قوية لكي تخافوا الرب إلهكم كل الأيام... وعندما سمع جميع
ملوك الأموريين الذين في عبر الأردن غربا وجميع ملوك الكنعانيين الذي على البحر أن
الرب قد يبس مياه الأردن.. ذابت قلوبهم ولم يتبقى فيهم روح بعد ..". وتندلع الحروب
بين هذه القبائل والشعوب العربية من أموريين وموآبيين وكنعانيين.
أما عن وضع أورشليم خلال هذا الصراع فقد كانت المدينة تحت حكم أدوني
صادق.
وقد بذل ملك أورشليم الكنعاني جهودا كبيرة لوقف تقدم الإسرائيليين
بزعامة يوشع: "فلما سمع أدوني صادق ملك أورشليم أن يشوع قد أخذ عاي أرسل أدوني صادق
ملك أورشليم إلى هوهام ملك حبرون وفرآم ملك يرموت ويافا ملك لخيس ودبير ملك عضلون
يقول اصعدوا إلي وأعينوني فنضرب جبعون لأنها صاحت يشوع وبني إسرائيل فاجتمع ملوك
الأموريين الخمسة ملك أورشليم وملك حبرون وملك برموت وملك لخيش وملك عجلون وصعدوا
هم وكل جيوشهم ونزلوا على جبعون وحاربوها".
وهكذا يرأس ملك أورشليم هذا التحالف ضد يوشع وبني إسرائيل وحلفائهم،
ولكنهم ينهزمون ولا يعلم مصير أورشليم سوى أن ملكها تم قتله مع بقية الملوك
المتحالفين حين قام يشوع بتقسيم الأراضي التي وقعت تحت سيادة الإسرائيليين، وقعت
أورشليم في قرعة سبط بني يهوذا: "وقد بقيت أرض كثيرة جدا للامتلاك.. إنما اقسمها
بالقرعة لإسرائيل ملكا كما أمرتك.. وكانت القرعة بسبط يهوذا حسب عشائرهم فصعد التخم
في وادي ابن هنوم إلى جانب اليبوسي من الجنوب، وهي أورشليم".
ورغم هذه القسمة التي أوقعت أورشليم في نصيب بني يهوذا يشير سفر
يشوع إشارة صريحة إلى أن أورشليم لم تكن خالصة لليهوذيين من بني إسرائيل حيث لن
يتمكن اليهوذيون من طرد السكان الأصليين: "وأما اليبوسيون الساكنون في أروشليم فلم
يقدر بنو يهوذا على طردهم، فسكن اليبوسيون مع بني يهوذا في أورشليم إلى هذا اليوم"،
وكما حدث هذا في أورشليم كذلك حدث في جازر المدينة الكنعانية: "فلم يطردوا
الكنعانيين الساكنين في جازر فسكن الكنعانيون في وسط أفرايم إلى هذا اليوم وكانوا
عبيدا تحت الجزية". ونفس الشيء يحدث مع بني منسى من الإسرائيلين: "ولم يقدر بنو
منسى أن يملكوا هذه المدن فعزم الكنعانيون على السكن في تلك الأرض وكان لما تشدد
بنو إسرائيل أنهم جعلوا الكنعانيين تحت الجزية ولم يطردوهم طردا".
وهكذا كان الحال إلى أن مات يشوع وهو وضع يشير إلى تحقق السيادة
لبني إسرائيل على أورشليم ولكن دون أن يتمكنوا من طرد سكانها الأصليين من اليبوسيين
الكنعانيين فقبلوا منهم الجزية.
ويستمر الصراع حول أورشليم في عصر القضاة بعد موت يشوع: "وحارب بنو
يهوذا أورشليم وأخذوها وضربوها بحد السيف وأشعلوا المدينة بالنار وبعد ذلك نزل بنو
يهوذا لمحاربة الكنعانيين سكان الجبل والجنوب والسهل"، ومع استمرار الصراع ورغم هذا
التخريب الذي لحق بأورشليم لم يتمكن الإسرائيليون من طرد اليبوسيين: "وبنو بنيامين
لم يطردوا اليبوسيون سكان أورشليم فسكن اليبوسيون مع بنو بنيامين في أورشليم إلى
هذا اليوم"،
وكان هذا هو وضع الكنعانيين في البلدان الأخرى جازر وقطرون وعكو وصيدون وغيرهم.
وانتهى الأمر بسكن الإسرائيليين على اخلاف قبائلهم وسط الكنعانيين: "وإفرايم لم
يطرد الكنعانيين الساكنين في جازر فسكن الكنعانيون في وسطه في جازر.. ولم يطرد آشي
سكان عكو ولا سكان صيدون .. فسكن الآشييون في وسط الكنعانيين سكان الأرض لأنهم لم
يطردوهم.. ونفتالي لم يطرد سكان بيت شمس.. بل سكن وسط الكنعانيين سكان الأرض..".