[size=24][color=blue]لصائم القائم
يقول الحق جلا وعلا في محكم تنزيله،: ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ )، في وصفِ عبادِ اللهِ الصالحينَ، الذينَ يَخِرُّونَ ساجدينَ إذا ذُكِّروا بآياتِ ربهم، ويسبحونَ بحمدِ ربهم، وهم لا يستكبرونَ، إنهم الذينَ تتباعدُ جنوبُهُم عن فراشِهم في الليلِ، خوفاً من اللهِ تعالى ومن عذابِهِ الشديدِ، وطَمَعاً في رحمتِهِ ورضوانِهِ ونعيمِهِ الْمُقِيمِ.
وقالَ سبحانَهُ وتعالى في وصفِ عبادِهِ المتقين: ( إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ، كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ )، وصفَهُمُ اللهُ سبحانَهُ بالمحسنينَ، واللهُ لا يُضيعُ أجرَ المحسنين، ولا يُضِيعُ أجرَ من أحسنَ عملاً، إنهم أولئكَ الذينَ كانوا قليلِيْ النومِ في طاعةِ اللهِ، وقيامِ الليلِ في الصلاةِ والذكرِ والدعاءِ، والاستغفارِ في وقتِ السَّحَرِ من آخرِ الليلِ. وجزاؤُهُم كما في أولِ الآياتِ السابقةِ: ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ ).
وقال سبحانه وتعالى: ( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ) فالآيةُ الكريمةُ بينَ القائمِ ليلاً ساجداً وقائماً خائفاً من الآخرةِ وعذابِها، راجياً رحمةَ ربِّهِ، فرَّقتْ بينَهُ وبينَ النائمِ الذي لا يَعْلَمُ ماذا ينتظرُهُ بعدَ موتِهِ، فشَتَّانَ بينَ مَنْ عرَفَ ربَّهُ حقَّ المعرفةِ، وبينَ الغافلِ الساهيْ الذي انشغلَ بدُنياهُ فمنعتْهُ من قيامِ الليلِ، وقد ظَهرَ هذا المعنى في سلوك التابعينَ، فقد كانَ "طاوُسُ يَثِبُ مِنْ عَلَى فِرَاشِهِ، ثُمَّ يتطهَّرُ ويستقبلُ القِبْلَةَ حتى الصباحِ، ويقولُ: طَيَّرَ ذِكْرُ جَهَنَّمَ نَوْمَ العابِدينَ".
وذُكِرَ عندَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلمَ رجلٌ نامَ ليلةً حتى أصبحَ فقالَ عنه صلى اللهُ عليه وسلم: ( ذاكَ رَجُلٌ بَالَ الشيطانُ في أُذُنَيْهِ ) متفقٌ عليه.
وقد أمرَ اللهُ سبحانَهُ وتعالى رسولَه الكريمَ بقيامِ الليلِ، فقالَ عزَّ مِنْ قائل: ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا)، وأخبرَ سبحانه وتعالى عن رسولِهِ الكريمِ أنُّه يقومُ ثُلُثَ الليلِ، ونصفَهُ، وأقَلَّ منْ ثُلُثَيِ الليلِ، وكذلكَ طائفةٌ من المؤمنينَ، ومدحَ اللهُ رسولَهُ بهذا، ومَدَحَ المؤمنينَ معه كذلك بذلك، وذلك في آخرِ سورةِ المزمّل.
وفي الحديثِ الذي رواهُ مسلمٌ عن رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه ِ وسلمَ أنه قال: ( أفضلُ الصلاةِ بَعْدَ الفريضةِ صلاةُ الليلِ )، وصلاةُ الليلِ من النوافلِ التي تجعلُ من يُداوِمُ عليها محبوباً عندَ اللهِ تعالى، كما في الحديثِ القُدُسِيِّ: ( وما يزالُ عبدي يتقربُ إليَّ بالنوافلِ حتى أحبَّهُ ).
وقالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ: ( أتاني جبريلُ فقالَ: يا محمدُ، عِشْ ما شِئْتَ فإنكَ مَيِّتٌ، وأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فإنكَ مُفَارِقُهُ، واعْمَلْ مَا شِئْتَ فإنكَ مَجْزِيٌّ بِهِ، واعْلَمْ أنَّ شَرَفَ المؤمنِ قِيامُهُ بالليلِ، وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عنِ الناسِ ).
وكان صلى الله عليه وسلّمَ يقومُ الليلَ حتى تَتَفَطَّرَ قَدَماهُ، أيْ: تَتَشَقَّقُ، ولما سألَتْهُ عن ذلك عائشةُ رضي الله عنها، وأنه قدْ غُفِرَ له ما تقدّمَ من ذنبِهِ وما تأخَّرَ قال عليه الصلاةُ والسلامُ: ( أفلا أكونُ عبداً شَكوراً ).
وعنِ ابنِ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: { صَلَّيْتُ مَعَ النبيِّ ليلةً، فَلَمْ يَزَلْ قائماً حتى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سُوْءٍ. قِيْلَ: مَا هَمَمْتَ؟ قَالَ: هَمَمْتُ أَنْ أَجْلِسَ وَأَدَعَهُ !} [متفق عليه]. قال ابنُ حَجَرٍ مُعَلِّقاً: ( وفي الحديثِ دليلٌ على اختيارِ النبيِّ تطويلَ صَلاةِ الليلِ، وقَدْ كَانَ ابْنُ مسعودٍ قَوياً مُحَافِظاً على الاقْتِدَاءِ بالنبيِّ، ومَا هَمَّ بالقُعُوْدِ إلاّ بَعْدَ طُوْلٍ كَثِيْرٍ مَا اعْتَادَهُ).
فمنْ أولى من الصائمِ الراجِيْ رحمةَ ربِّهِ، الخائفِ من عذابِهِ، يجوعُ في الدنيا كي لا يجوعَ في الآخرة، ويَظمَأُ في الدنيا كي لا يَظمَأَ في الآخرةِ، ويخشَى جَهَنَّمَ ولَظاها، مَنْ أولى منهُ بقيامِ الليلِ، قانتاً فيه، ساجداً وقائماً يحذرُ الآخرةَ ويرجو رحمةَ ربه؟
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين