عبد الباري عطوان
اخيرا، وبعد عشر زيارات للاراض الفلسطينية المحتلة في اقل من عشرة اشهر، ونجاحه في استئناف المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية، اكتشفت السلطة في رام الله ان المستر جون كيري وزير الخارجية الامريكي “يطرح افكارا” هي الاقرب للحكومة الاسرائيلية، حسب تصريحات السيد رياض المالكي وزير الخارجية الفلسطيني “المزمن”.
هذا “الاكتشاف المتأخر جدا” تبعته حملة اعلامية شرسة شارك فيها اكثر من مسؤول فلسطيني ضد وزير الخارجية الامريكي والافكار التي يحاول فرضها على الجانب الفلسطيني في اطار ما يسمى باتفاقية “الاطار” التي من المفترض، في حال توقيعها، ان تكون اساس اي مفاوضات مقبلة حول قضايا الحل النهائي.
السيد المالكي (الفلسطيني وليس العراقي) اطلق تصريحاته هذه بعدما تناهى الى اسماعه ورئيسه ان الوزير كيري يحاول اقناع العاهلين السعودي عبد الله بن عبد العزيز، والاردني عبد الله الثاني، بالقبول بيهودية دولة اسرائيل، والضغط على السلطة الفلسطينية ورئيسها بالقبول بالشيء نفسه.
الوزير كيري زار الرياض وعمان قبل عشرة ايام والتقى بالعاهلين السعودي والاردني فعلا، وسيطير الى باريس يوم الاحد المقبل، للقاء وزراء خارجية عرب يمثلون لجنة متابعة السلام العربية التي تضم الامارات ومصر والاردن وفلسطين والمملكة العربية السعودية والامين العام للامم المتحدة علاوة على قطر رئيسة هذه اللجنة، والهدف هو تسويق يهودية الدولة الاسرائيلية، وحثهم على قبولها.
هذه اللجنة ماتت وشبعت موتا، وكذلك مبادرة السلام التي تشكلت لمتابعتها، وبعض وزرائها يعتبرون اسرائيل حليفا، وكانت قد تعهدت بالحفاظ على امن اسرائيل وحدودها علنا اثناء زيارة الى واشنطن، ولهذا سيكون وزراء فيها احرص على الاستماع للوزير كيري من الاستماع للسلطة ورئيسها.
***
لا نعرف ما ذا كان العاهلان السعودي والاردني قد اقتنعا بالمطلب الامريكي هذا، فلم يصدر عنهما او المتحدثون باسمهما تصريحات مؤيدة او معارضة، صريحة او مواربة، ولكن ما نعرفه ان استمرار الوزير كيري في مساعيه هذه، وسعيه للقاء وزراء الخارجية العرب يوحي بأن لديه ما يشجعه للمضي قدما في الترويج والاقناع لفكرة “التهويد” هذه ومحاولة تسويقها عربيا، والتقليل من الكوارث التي ستترتب عليها، مستغلا ضعف العرب وانشغالهم في الملفات الاخرى في سوريا والعراق ومصر وليبيا.
الاسرائيليون تقدموا بشروط تعجيزية الى السلطة الفلسطينية عبر الوزير كيري على قمتها الاعتراف مجددا باسرائيل كدولة اولا، وكدولة يهودية ثانيا، واسقاط حق العودة نهائيا، ونسيان موضوع القدس وعودتها كعاصمة للدولة الفلسطينية المنتظرة، والتسليم بحق اسرائيل في ضم منطقة الغور حفاظا على امنها وسيطرتها على الحدود مع الاردن، واخيرا القبول بمبدأ تبادل السكان كخطوة تالية، او موازية لمبدأ تبادل الاراضي.
كم مرة ستعترف السلطة باسرائيل، وما هو الاعتراف الثالث الذي سيوضع على الطاولة في حال القبول بها كدولة يهودية، وهل علينا كفلسطينيين وعرب ان نقف في طابور الاعتراف هذا فردا فردا ونقسم على القرآن الكريم بصدق اعترافنا؟ الم تعترف منظمة التحرير بدولة اسرائيل قبل توقيع اوسلو؟
السلطة الفلسطينية ورئيسها يريدون من العرب ان يرفضوا مطالب كيري هذه، وان يبلّغ وزراء خارجيتهم الوزير الامريكي بمعارضتهم لمعظمها، او كلها، بما في ذلك يهودية دولة اسرائيل، ولكن دون ان يقدم هؤلاء وخاصة الرئيس محمود عباس على اي خطوة عملية تحثهم على ذلك وتعزز موقفهم.
لم نسمع احتجاجا قويا من الرئيس عباس نفسه على هذه الافكار الامريكية الاسرائيلية، تجعله قدوة للوزراء العرب وقادتهم، كأن يقف في مؤتمر صحافي يعقده في مقره في رام الله، ويعلن فيه ان الوزير كيري منحاز لاسرائيل كليا، ويحاول فرض مطالبها المرفوضة، مثل الاعتراف بيهودية اسرائيل، ويقرر، اي الرئيس عباس، الانسحاب فورا من المفاوضات مع الاسرائيليين لان الوسيط الامريكي ليس نزيها، ويدعو الشعب الفلسطيني، وحركة “فتح” التي يتزعمها الى القيام باحتجاجات ومظاهرات وعصيان مدني لدعم موقفه هذا.
عندما يقدم الرئيس عباس على مثل هذه الخطوة العملية، وبطريقة جادة حاسمة، لن يجرؤ اي وزير خارجية عربي على الرضوخ لمطالب كيري هذه التي تعني طرد مليون ونصف مليون عربي من المناطق المحتلة عام 1048 باعتبارهم غير يهود، لان هذه الارض لليهود فقط.
مشكلتنا ليست محصورة في وزراء الخارجية العرب ولا قادتهم فقط، وانما في الرئيس عباس وسلطته ايضا، فهذا الرجل لا يريد اي نوع من المقاومة للاحتلال سلمية كانت او غير سلمية، الامر الذي ادى الى تغول الاستيطان والاهانات والجرائم الاسرائيلية وتراجع القضية الفلسطينية الى ذيل الاهتمامات العربية قبل الدولية.
***
اليس مؤلما ان لا يذهب الرئيس الفلسطيني الى جنازة نيلسون مانديلا الرجل الذي قال ان حرية جنوب افريقيا واستقلالها لا يكتملان الا بحرية الشعب الفلسطيني واستقلاله، فما الذي يمنعه من ذلك؟ كثرة الاشغال، ام متابعة حرب التحرير، اليس محزنا للقلب ان يعلن الرئيس عباس الحداد يوما واحدا علة وفاة مانديلا، هذا الرجل الرمز والقدوة والتاريخ والنموذج في المقاومة والتسامح، وكأنه يقطع من جلده، وكأن الحداد لاكثر من يوم سيعطل اقتصاد هذه السلطة المهلهلة المنزوعة الكرامة والدسم.
لا يجب ان يرضخ الوزراء العرب لطلبات الوزير كيري اثناء لقائهم به في باريس، ليس لان السيد المالكي زميلهم او رئيسه يريد منهم ذلك (لم نسمع كلمة من عباس بهذا الصدد)، وانما لان شعوب الامتين العربية والاسلامية بأسرها لا يمكن ان تقبل بخطوة كهذه تعني تفريطا بارض فلسطين وهويتها العربية والاسلامية.
هوية الارض، كل الارض، التي تحتلها اسرائيل بدعم امريكا وغيرها، هوية عربية اسلامية، وستظل كذلك، ومن العار والعيب، ان تتبنى امريكا التي تدعي انها زعيمة العالم الحر، وقيم العدالة والديمقراطية، طرحا عنصريا، وتحاول فرضه بالقوة والتهديدات بالتجويع على شعب جرى سلب حقوقه، وطرده من ارضه بأسلحة واموال امريكية وغربية.
شكرا لتواجدك زائر نورت الصفحة