- أنا حزين يا عمي..!
- لماذا يا زيد؟
- اشتقت لقرية الكرامة..فلي فيها ذكريات..
- وهل بضع أيام صنعت لك ذكريات يا زيد. فماذا يقول من كانوا في بيوتهم قبل عام 1948؟
- لي في الكرامة ذكريات..
قال ذلك وحدثني عن تفاصيل عيش قرية الكرامة قبل أن تهدمها قوات الاحتلال..وتفرّق شمل الساكنين..
بيت إكسا..
كان تأسرني دوما أشجار الكريش والصنوبر والسرو وقد لعبت بسيقانها وفروعها الرياح، ما بين مرتفع جبل النبي صموئيل وبيت إكسا، كنت أرى ميلان الشجر، الذي ما زال واقفا، فلم أملّ من البحث عن رمز ما، لهؤلاء القرويين الذين ما زالوا يمارسون عيشهم الصعب هنا؛ فمرة أنظر تجاه الأشجار متذكرا لوحات الفنانين التأثيريين، وأخرى أتأمل الكساونة مبصرا كيف ضاقت الأرض بهم، فلم يعودوا قادرين على بناء بيوت جديدة لهم، ومبصرا الظلم أمامنا كيف لا يحصل الكسواني على رخصة بيت على أرضه، في حين استمرّ الاستيطان هنا على أرضهم وأراضي القرويين في قرى شمال غرب القدس التي سلبت عام 1948 مثل قطنة وبيت سوريك وبدو وبيت إكسا ولفتا ودير ياسين...والأخرى التي سلبت عام 1967، فمستوطنة رموت صارت مدينة كبيرة تطوق غرب القدس، وقد تم إضافة مستوطنات أخرى، أحيطت بجدار فصل وضم عنصري واضح، فأمامنا هنا على النقطة العسكرية على باب بيت إكسا مستوطنات جفعات زئيف وامتداداتها في أكثر من جهة، وحداشا، وشموئيل،...
فالكساونة وقرويو شمال غرب القدس والفلسطينيون عموما، يريدون العيش كباقي البشر، فنتيجة العيش والحب والزواج أسر جديدة، وبيوت جديدة، فكيف يسمح لبشر دون بشر بالبناء؟ وكيف تنتهك أبسط القوانين الدولية الإنسانية هنا؟ لماذا جعل الاحتلال أرض الفلسطيني تضيق عليه وتصبح محرمة؟
هل كان أمير الشعراء هنا؟ أحمد شوقي يظهر واقفا يلقي شعره، عن وطنه مصر كيف صارت حراما على المصريين..أنظر تجاه التلة الجميلة الخضراء موقع قرية الكرامة المهدمة، على طرف بيت إكسا فأسمع الشاعر: أحرام على بلابلة الدوح حلال للطير من كل جنس؟!
أحرام على الكسواني أن يعيش على أرضه، ويبدع ما يريد من زراعة وعمران؟ وحلال للمهاجرين اليهود القادمين من بعيد أن يفعلوا ما هو حق للفلسطيني الأصلي؟
لم يدر صديقي أمجد شحادة الذي كان يبني بيته وهو يحدثني عن أحلامه فيه، وعن مراجيح أطفاله، وكيف يخطط للبيت في الداخل والخارج..كان يتحدث باطمئنان بعد أن حصل قبل سنوات على رخصة البيت..لم يدر أن زملاء ميخا مسؤول التظيم هنا، سيكونون له بالمرصاد..وفي فجر حزين وغاضب سوّت الجرافات بيت أمجد وسطت على أحلام أسرته الطبيعية..قيل له أنك بنيت في الخط..على الخارطة..الخط الرفيع بعرض ملمتر قدروه بأمتار ..قالوا ذلك وهدموا..
قرية من قرى القدس العريقة والكبيرة تم تقزيمها وتصغيرها، فقد هدمت نصفها عام 1948 على أيدي العصابات الصهيونية، وظلت تعاني على مدار 66 عاما حتى الآن..لماذا؟ أتأمل حولي، فأرى في الشجر مثالا، كيف تمددت رموت الكبيرة على حساب بيت إكسا وبيت حنينا القرية التوأم ؟ هناك على أطراف القرية، أشجار غزاها نبات طفيلي، لعله الهالوك، نما على سيقانها وفروعها، وامتص دماء الشجر، فظهر اخضراره حتى صار شجرا على الشجر، أما الشجر الأصلي فيكاد يموت!
هذا هنا في بيت إكسا، أما في واد بيت إكسا- لفتا، والذي كنا نتهرّب من خلاله لدخول القدس التي حرمها الاحتلال علينا، فقد غزت النباتات والأعشاب المتسلقة ومعها الهالوك أشجار الزيتون، وسطت على حياتها، في حين ظلت سناسل اللفاوتة شاهدة على إبداعهم حين كانوا هنا..
المكان مليء بالرموز، والحكايات..
والأرض هنا تعيدنا إلى الكتب، لنتعرف أكثر على الخطة دالت الصهيونية التي كان هدفها التطهير العرقي، في حرب عام 1948 التي لم تنته بعد هنا في كل فلسطين، فكأن الاحتلال يندم على بقاء الناس هنا، المواطنون الفلسطينيون في القرى الحدودية، ومنها بيت إكسا، فما زالت حكومات إسرائيل التي تتحدث عن السلام ولا تمارسه تسير في مخططاتها القديمة..لماذا؟ لقد فضح إيلان بابيه عمليات التطهير العرقي في أماكن كثيرة عام 1948 وما سبقه من عمليات عام 1947، لكن هناك من لا يستحي أبدا..!
مع بناء الجدار العصري هنا في منطقة القدس، خصوصا في شمال غرب القدس وبيت إكسا تحديدا، لم يشأ الاحتلال ضم قرية بيت إكسا، ومنح مواطنيها الهوية المقدسية؟ لسبب بسيط ان الاحتلال يريد الأرض لا المقدسيين الذي أصلا هو يضيق بهم..
وعلى ذلك فإن نية الاحتلال بمصادرة مئات الدونمات هو استمرار لمصادرة بدأت هنا منذ عقود، والتي زادت بعد الاحتلال عام 1967، وبشكل خاص في مرحلة بناء الجدار، وعليه فإن الخطة العنصرية تريد وضع الجدار حول البيوت ليتم سلب فضاء القرية الطبيعي والتاريخي والزراعي والاقتصادي..والهواء!
لذلك بادر الكساونة ببناء قرية الكرامة هنا، للفت الانتباه إلى حقهم الطبيعي!
والأرض تعيدنا إلى الروايات الشفوية القديمة أيضا..والكتب..
في الطريق الى قرية الكرامة..في طرف بيت إكسا، نمرّ من جانب البيوت المهدمة عام 1948، كثيرة كانت..نصف القرية تم تدميره..وصارت الأرض أرض حرام! هكذا هو المسمى والتسمية...نسبة إلى منطقة الحدود بين الضفة الغربية و(إسرائيل).
في هذا البيت كان عبد القادر الحسيني يقيم قليلا، يرتدي الثياب العسكرية..تلك رواية شفوية أيضا..وهناك في القسطل استشهد بعد أن حررها..القسطل ليست بعيدة..لا في المكان ولا الزمان أيضا..فما زالت الحرب بسلاح ودخان وبدونهما مستمرة..رغم عملية السلام للأسف الشديد..نحن فعلا أردنا نجتح عملية السلام هنا..لنظل على أرضنا، فأس سلام هذا الذي يكون على حساب المواطنين وممتلكاتهم الخاصة والعامة!
في تجوالنا مع وزارة الإعلام قبل أيام في بيت إكسا، كنت استمع إلى الروايات والحكايات...لقد عانى الكساونة والقرى الأخرى..خصوصا في السرقات التي تعرضوا لها في حرب عام 1967..من قبل سكان المستوطنات القريبة..وفي بيت سوريك أيضا..لقد تمت سرقة كل شيء من الطناجر إلى الغنم...سرقات البوت ثم سرقة الأرض علنا بدون حياء!
أصل إلى مكان الكرامة، فأبحث عن الأطلال، وكم من أطلال سنكون معها؟ هنا آثار لب بزر عين الشمس، أكياس بلاستيك ونار..رماد..خزان ماء..وطوب مكسر..كان أهل الكرامة بنوا به مسجدا صغيرا..للقرية..
أطلال قرية الكرامة لبضعة أيام ترفع بصري إلى لفتا المنتصبة أمامي، ولفلسطين عام 1948، ماذا تبقى من بيوت ومزارع وذكريات؟
النكبة مستمرة، الجديد هنا قديم..
أتجول مع الطفل الكسواني صالح محمد، فنتحدث عن المدرسة والكرامة وأمور أخرى..
- هل أقمت في الكرامة؟
- نعم.
- أين ستبني بيتك في المستقبل؟
- قرب بيتنا؟
- وأطفالك؟
- هنا..(وابتسم)
هل ابتسم لفكرة الأمل أم لفكرة العمر..والزمن!
- هل تعرف زيد؟
- نعم صاحبي..هو من بيت دقو وجاء وأقام هنا، ولنا ذكريات جميلة..
- لقد حدثني عنها وعن شوي البطاطا ليلا..
- هل تعرفه؟
- ابن أخي د.سعيد يقين الذي كان هنا أيضا..
سلمنا المكان إلى الذاكرة والكتب، والذكريات القريبة والبعيدة..ولعلنا نستنتج أن الناس هنا هم سر البقاء لا شيء آخر..
أمس الجمعة زرع الكساونة شجر؛ فهو عمران وهو بيوت..ولأهالي بيت إكسا وقرى القدس أن يزرعوا شجر زيتون، بعد أن خلع جنود الاحتلال خيام قرية الكرامة..ورائع أن تتقدم الأشجار لتقاوم..